بادئ ذي بدء وقبل محاولة الإجابة على هذا السؤال المستفزِّ في ظاهره, والمحفِّز والمستنهض للهمم في باطنه, لا بأس لو مهّدنا له بتوطئةٍ تأطيرية أو تنظيرية أو أو.., وأغلب الظنِّ أنكم لستم بمحتاجيها, وبكل تحقيق وتأكيدٍ أنني لست أفضل من يزجيها, ومع هذا كله, فلا بدَّ مما منه بد, وبإمكانكم
أنْ تعتبروها تذكرة والذكرى تنفع المؤمنين.
فأقول وبالله التوفيق: إنّ هامش الحياة قصيرٌ جداً وخصوصا إذا ما وُظف في غير ما خلق له, فهو وجود بين عدمين كما يقول بعض المتكلمين عدمٌ سابق حيث لا وجود ولا حياة, وعدم لاحقٌ حيث الموت والفناء عبوراً إلى الدار الآخرة, ولا شك أنَّ العابرين على هذا الهامش القصير جيئة وذهابا كثيرين وكثيرين جدا.., ولكنًّ الذين استطاعوا منهم ترك بصماتهم على صفحات التاريخ قليلون وقليلون جدا..!
إنَّ كل واحدٍ منّا بأنانيته الكامنة بين جوانحه, ونرجسيته الطافية في جميع أقواله وتصرفاته, يتمنَّى أنْ يكون شخصا مميزا وأن يكون شخصا استثنائياً, وأنْ يكون شخصا مثالياً, وأنْ يكون شخصا لا كالأشخاص! وأنْ يملأ الدنيا ويشغل الناس, وأن يكون وأن يكون وأنْ وأنْ...! ولكنَّ الأماني لا تحقق الأهداف, ولا تصنع الأشخاص المميزين والمثاليين أبداً, على حدِّ قول أحمد شوقي في مدحيته الجميلة :
وما نيل المطالب بالتمنِّي***ولكن تأخذ الدنيا غلابا
إنّ منْ هذه حاله ومن تلك مواصفاته وأهدافه, حريٌ به أنْ يجعل من ضمن اهتماماته إن لّم يكن على سلّمها وقبل فوات الأوان, أنْ يترك بصمته على صفحات التاريخ الناصعة, وإنها لعمري مهمة جميلة ونبيلة, ولكنها في الوقت ذاته شاقة ومن الصعوبة بمكان,
وأنْ يكون مُميزا حقاً في أقواله وأفعاله وأن لاَّ يكون إمَّعة تابعا للآخرين في أقوالهم وأفعالهم على حدِّ قول القائل:
تكلمتُ كالماضين قبلي بما جرتْ***به عادة الإنسان أنْ يتكلما
بل عليه أنْ يجترح لنفسه خطاً موازيا لا في التفرقة والشقاق, بل إنّما في التألق والوفاق, جاعلا نصب عينيه مدى قصر الهامش المتاح له, ونبل وجسامة المهمة التي انتدب لها, وأن يتمثل سيَّر العلماء في علمهم, والنبلاء في نبلهم, والكرماء في كرمهم,والشجعان في شجاعتهم... في كل زمان ومكان, وأن يجعل منهم مثالا يُحتذى, وأسوة حسنة تقتدى,
فتشبهوا بالكرام إلَّمْ تكونوا مثلهم@@إنّ التشبه بالكرام فلاح
وأنْ يسير دربه بخطوات واثقة, وهمة قوية سامقة, ولسان حاله يشدو:
إنَّ السيادة في اثنتين فلا تكنْ***يا ابن الأكارم فيهما بالزاهد
حَمل المشقة واحتمال أذى الورى***ليس المشمِّر للعلا كالقاعد
قل للذي طلب العلى بسواهما***هيهات تضرب في حديدٍ بارد
أوْ على حدِّ قول الآخر في ذم الجهل وأهله:
إذا المرء ذا أصلٍ أصيلٍ إذا انتسبْ***ولم يكُ ذا علم ولمْ يكُ ذا أدبْ
ولمْ يكُ أهلاً لافتتاح عويصةٍ***ولا السِّيَّر الحُسنى ولا ألسنَ العربْ
ولمْ يدر ما طيِّ العروض وخبنه***ولمْ يدر ما الأوْتادُ والفرق والسببْ
فما هو إلاَّ كسرابٍ بقيعةٍ***يحسبه الظمآنُ ماءً وقدْ كذبْ
وممَّا لا مراء فيه أنّ أحسن ما يخلِّد به المرء نفسه على صفحات التاريخ: هو العلم والعمل بلا منازع, أو ما له علاقة بالعلم والعمل, كالثقافة والأدب... يقول الإمام علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه وأرضاه:
ما الفخر إلاَّ لأهل العلم إنهم***على الهدى لمن استهدى أدلاَّء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه***والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعشْ حياً به أبداً***الناس موتى وأهل العلم أحياء..
إننا اليوم في القرن الواحد والعشرين نقرأ للملك الضِّليلْ في العصر الجاهلي سمره ومجونه...:
قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزل***بسقط اللّوى بين الدخول فحومل
ونقرأ لطرفة ابن عبد البكر نرجسيته وغروره:
فإنْ متُّ فانعيني بما أنا أهله***وشقي عليَّ الجيب يا ابنة معبد...!
ونقرأ لعمر ابن كلثوم التغلبي كبرياءه واعتزازه بقومه وذويهْ:
فإنْ نغلبْ فغلاَّبون قدماً***وإنْ نُغلبْ فغير مغلَّبينا...!
ونقرأ لعنترة ابن شداد نخوته وإبائه:
ولقدْ أبيتُ على الطَّوى وأظله***حتى أنال به لذيذ المأكل
ونقرأ لحاتم الطائي كرمه وإيثاره:
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له***أكيلا فإني لست آكله وحدي
ونقرأ لزهير ابن أبي سلمى المزني حكمه النّادرة, وأمثاله السائرة:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه***وإن يرق أسباب السماء بسلم
ومن يكُ ذا فضل فيبخل بفضله***على قومه يستغن عنه ويذمم
ومن ومنْ.., ونقرأ للنابغة الذبياني اعتذاراته الضارعة للنعمان ابن المنذر:
فإنك كالليل الذي هو مدركي***وإن خلت أنَّ المنتأى عنك واسع.!!
ونقرأ ونقرأ ونقرأ...وأكتفي بهذا النزر اليسير من تاريخ الأدب والشعراء, وأمَّا بالنسبة للعلم والعلماء فلا يمكن أبداً أنْ يحصى, وهيهات هيهات أنْ يستقصى, ولو ملأنا الصفحات والرفوف, واستنزفنا المحابر والحروف, أن نعدَّ عشر العشر ممَّن خلدوا أسمائهم بحروف من ذهب على صفحات التاريخ الإسلامي المجيد.., كما يقول ابن دريد في مقصورته الشهيرة:
وإنَّما المرء حديثاً بعده***فكنْ حديثا حسناً لمنْ وعى
يحكى أنَّ حفيدة هرم ابن سنان وفدتْ على أمير المؤمنين عمر الفاروق في خلافته رضي الله عنه وأرضاه فسألها قائلا: كم أعطى أبوك لزهير ابن أبي سلمى المزني جرَّاء مديحه إيَّاه؟ فقالت له: أعطاه كذا من الإبل وكذا من الغنم وكذا من الحلل وكذا وكذا..., فقال لها رضي الله عنه: (لئن كان أعطاه وأعطاه وأعطاهْ, لقد أسبغ عليه حُلة من المجد لا تبلى أبد الدهر)!!
إذاً فعلى كل واحدٍ منّا ألاَّ يقرَّ له قرارْ, أوْ يكلَّ له اصْطبارْ, حتى يتأكد أنه سطَّر اسمه في ذاكرة التاريخ, ولو بكلمة طيبة في مشهدٍ مهيبٍ, أوْ بلمسةٍ حانيةٍ ليتيم أوْ مسكينْ, أوْ بمواساة جميلة لفقير أوْ ضنيك ولوْ بشق تمرةٍ, أوْ أوْ..., عسى أنْ يتذكَّره متذكرْ, أوْ يدَّكره مدَّكرْ, بعد موته وفناهْ:
سيذكرني قومي إذا جدَّ جدهم***وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
وأنْ يعمل كل واحد منا جاهداً على أن لا يكون حاله وحصاده من هذه الدنيا وعمره المديد بها:
قلَّ العزاءُ إذا لاقى الفتى تلفاً***قول الأحبة لا تبعدْ وقدْ بعدا
إنَّ من لم يترك وراءه ما يذكر به سوى لوعة الأحبة وعبرات الجوى, فإنها سرعان ما تتلاشى وتذبل وتندثرْ...! عندما تهدأ عاصفة الحزن والأسى, وبعدها لن يذكره ذاكر ولن يزوره زائر..,! .
وبالعودة إلى محاولة الإجابة على السؤال أعلاه, بعد هذه المقدمة التي يبدو أنها طالتْ وانثالتْ من غير قصدٍ منّي فاعذروني, فأقول مجيبا:
سألني بعضهم في الآونة الأخيرة خلال إطلالة ثقافية عبر المحطة الجهوية لإذاعة موريتانيا بكيفه, هل تعتقد أنَّ الثقافة على مستوى ولاية لعصابة بخير؟ فأجبته: يغضُّ مضجعي ويحزنني أنْ لاّ مناص من الإجابة بالنفي لا وكلاَّ وأدوات النفي كُلاَّ, الثقافة بولاية لعصابة بكل أسف ليست على ما يرام مطلقا,!!.
أمّا عمن يقف وراء ذلك الاضمحلال والحرمان الثقافي المُميت حدَّ الرتابة والركود..!!؟ والذي تعاني منه ولاية لعصابة بشكل عام ومحيِّر,!! فيُخيَّل إليَّ والعلم عند الله أننا نتحمَّل وللأسف الشديد مسؤولية ذلك جميعا!! سواء كنا أطرا أو مثقفين أو ساسة أوْ وجهاء أوْ رجال أعمال أو مجتمعا مدنيا أوْ أو...,
إنَّ عدم اهتمامنا أو اكتراثنا وحتى تخاذلنا واختلافنا في بعض الأحايين, أمام ما يحيق بولايتنا الحبيبة من تهميش وإقصاءٍ ثقافي وعلمي..مثيرٌ للدهشة بلْ وللشفقة في آن واحدٍ!! يا أبناء ولاية لعصابة البررة أما كفانا خنوعا وهوانا على الناس؟!! إلى متى تظل الثقافة في ولايتنا العزيزة تضمحل وتضمحل وتتردى إلى قاع المهانة والذبول..؟!! فهلاَّ بذلنا جهدا ولو متواضعا من أجل نفض الغبار عن وجه ولايتنا الثقافي الأنيق عبر العصور الفارطة؟ إلى متى يا ترى يتمادى كل واحدٍ منّا في التغنّي على ليلاه ومصالحه الشخصية والآنية, غير آبه بتاريخ ولايته ومضارب قومه ومرابع ندمائه وأترابه؟؟!! ومع هذا يدَّعي انتمائه لها وحبه إيَّاها زورا وبهتانا..!!
وكلٌ يدّعي وصلا بليلى***وليلى لا تقرُّ له بذاكا
لقد كان حرياً بنا أنْ ندَّخر تخاذلنا وخلافاتنا واختلافاتنا.. وأنانياتنا.. ونرجسياتنا الممضة والمقيتة, للاستحقاقات الانتخابية, وما أدراكم ما الاستحقاقات الانتخابية,؟! والمهاترات السياسية والمصالح الضيقة والآنية...!!,
أمَّا خدمة ولايتنا ووحدتها وثقافتها ورفاهيتها وازدهارها وو..., فمن الأجدر بها أنْ توَّحدنا أكثر ممّا تفرقنا وأنْ نسعى لها جميعاً قياما بالمسؤولية وحفاظا على الدَّيمومة والمصير.., وتثميناً للتاريخ ورداً للجميل..,
لقد منَّ الله تعالى على هذه الولاية الحبيبة منذ بضع سنواتٍ بمنبرين إعلاميين رائدين ومتألقين.., بذلا كلَّ ما في وسعيهما من أجل خدمة هذه الولاية وأهلها وفتحوا صفحاتهم وأحضانهم أمام كل سكان الولاية بدون تمييز أوْ إقصاء, بغية الرفع من مستوى هذه الولاية الثقافي والعلمي والمعيشي وو...إلخ, ألا وهما: المحطة الجهوية لإذاعة موريتانيا بكيفه, ووكالة كيفه للأنباء, لقد أبلواْ بلاء حسنا يذكر فيشكر, في خدمة هذه الولاية وسكانها, وما ادَّخروا جهدا في احتضانها والتعريف بها, ولكن كما يقول المثل الشعبي السائر عندنا: (أيد وحده ما تصفق) أوْ على حدِّ قول الشاعر:
متى يبلغ البنيان يوما تمامه***إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
إنَّ أكثر ما أتمنَّاه أنْ نصحوَّ يوما وقد رفعنا التحدي واجتمعنا على قلب رجل واحد منّا, ومحونا عن ولايتنا ران التخلف والخمول الذي رافقها سنين عددا؟؟!!
ختاما أرجو ألاّ أكون أصيح في واد, أوْ أنفخ في رمادْ.
وأن لاّ يكون حالي على حدِّ قول القائل:
تناءتْ بك الأيامُ أيَّ تنائي***وأثوَتْك أرضٌ غير ذات ثوائي
وعلى كل حال ومهما ادلهمت الخطوب يظلُّ الأمل في الله كبير..., وربما ما زال في الوقت متَّسع, وفي الحياة دروب...,وإنَّ غداً لناظره قريب.
ولله الأمر من قبل ومن بعد, وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكلت وإليه أنيب.