شكلت أحداث العدوان الإسرائيلي الأخير على قافلة الحرية المبحرة من اسطنبول إلى غزة مناسبة لإحداث نقلة نوعية ثانية خلال أقل من عام في الدور التركي تجاه القضية الفلسطينية, فمما لاشك فيه لدى العديد من المتابعين أن الدم التركي الذي سال على أيدي البحرية الصهيونية على متن سفينة «مرمرة» سيُنبت في
السياسية التركية دوافع جديدة تقود لحمية أعمق لنصرة هذه القضية العادلة, وربما يؤسس لتحولات لم تكن في الحسبان في ملفات المواقف التركية من العديد من القضايا التي تخدم هذا الكيان البغيض المزروع بقوة الحديد والنار في كبد منطقة ترفضه وما فتئت تلفظه, غير أن سنن التحولات الكونية ما زالت تمده بالحياة مهما حاصره موج الغضب المزلزل الذي ينذر بقرب اقتلاعه من الجذور بين الفينة والأخرى.
تركيا ودور الضعيف الإيجابي لا المتخاذل
بدأت تركيا مع قيادتها الألمعية الجديدة مرحلة جديدة من ولوج ساحة الفعل السياسي الريادي على المستوى الإقليمي, خصوصا حين يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية, وبدأ شلال التألق يتدفق حينما انسحب رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان من منتدى دافوس الاقتصادي احتجاجا على حزمة من الأكاذيب المختلقة تضمنتها كلمة رئيس الوفد الصهيوني شيمون بيريز, وقد اختار أردوغان أن يعلن مواقفه الرافضة للظلم الصهيوني من منتدى اقتصادي, مع أن دور تركيا السياسي تكمن قوته في تألقها الاقتصادي, ولكن مغزى الرسالة كان واضحا, فإن تركيا ذات الإرث الإمبراطوري مهما كانت فقيرة وضعيفة فإن موقفها السياسي لن يظل رهينة لهواجس وضعيتها الاقتصادية, فقد كانت السياسة دائما قاطرة النجاحات السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية والحربية, فلا مبرر إذن للرضا بالسير في ذنب القافلة الإقليمية التي تبحث عن دور ضائع و «وضيع» على أجندات الأوروبيين والأميركيين, فالاعتماد على الذات والوقوف مع حقائق التاريخ ومعطيات الجغرافيا أفضل من اللهاث وراء السراب الخادع لدعايات الآخرين, خصوصا أن الآخرين هؤلاء أصحاب حقد عنصري وتعصب حضاري يرفض للصديق والجار أن يتبوأ مكانته التي تناسب الأدوار الثقيلة التي يقع عبؤها الأكبر عليه, ولدينا نموذج دال على رفض الأوروبيين لدخول تركيا الاتحاد الأوروبي مع أن أدوار تركيا في حلف شمال الأطلسي لا تقدر بثمن.
ولكن العبقرية السياسية للأتراك قادتهم إلى البدء في مشروع سياسي جديد للإقلاع بالدور السياسي التركي عن المستوى الإقليمي, هذا المشروع هو النهوض بدور الضعيف الإيجابي والتخلي عن دور الضعيف المتخاذل أو المتواطئ, الذي تقوم به الأنظمة العربية الرسمية أحسن قيام, ولكن المشروع التركي الجديد يقع في عمق فن السياسة التي تعتبر في أدل تعريفاتها «فن الممكن» ومعالم هذا الدور الإقليمي التركي الذي برز بصورة مفاجئة بالنسبة للنظام الرسمي العربي لقي ترحيبا وارتياحا واسعا على مستوى جبهات الممانعة الشعبية في الأقطار العربية جميعا, وفي دائرة العالم الإسلامي الأوسع, خصوصا أن الجميع تعوّد من تركيا السير في الركاب الغربي المتواطئ مع جرائم إسرائيل.
ولكن الكثيرين الآن يريدون تحميل الدور التركي أكثر مما يقدر على تحمله في سياق الممكن السياسي للحظة الراهنة, فلا تزال تركيا مثقلة بإرث التبعية الثقيل للغرب, وما يتطلبه سعيها في الوقت الحالي لدخول النادي المسيحي «المسمى الاتحاد الأوروبي» مع احتفاظها المعتز بهويتها الإسلامية وخلفياتها الحضارية الحساسة, عندما يتعلق الأمر بالدور التركي في المخيلة الأوروبية التي لم تُنسها الحريات والاستقرار والتقدم التكنولوجي تاريخها بقدر ما سمح لها بالاحتفاظ بتفاصيل ذاكرتها مع الأتراك العثمانيين خلال القرون الخوالي.
فالدور التركي إذن يعرف حدوده وضعف وسائله, ولكنه طموح في ضوء الممكن, وإيجابي بالمقارنة مع أدوار بعض الأنظمة العربية التي لا توصف بأنها متخاذلة فقط, بل ومتواطئة كذلك مع إسرائيل لخنق الشقيق الفلسطيني المقاوم الرافض لاستمراء الظلم مهما خذله أشقاؤه المتخمون بالمال والسياسة ذات السقف المنخفض, فالدور التركي يصر على توظيف الفعل السياسي الممانع للغطرسة الصهيونية المدعومة أميركيا مع استعمال كافة الأسلحة السياسية الممكن استخدامها بالنسبة للضعفاء في هذا الصراع, والتي من أهمها:
1- احترام حق الشعب الفلسطيني في نيل حقوقه, ومطالبة العالم بالعمل على احترام هذه الحقوق ووضع حد للعدوان الإسرائيلي المستمر على الإنسان والأرض والمقدسات في هذه الأرض, باعتبار ذلك شرطا ضروريا للاستقرار العالمي واحترام الشرعية الدولية التي ظلت دائما رهينة لإرادة الأقوى ووفرت الغطاء المستمر للعدوان على هذا الشعب إنسانا وأرضا ومقدسات.
2- دعم نضال الشعب الفلسطيني ومقاومته من أجل استرداد حقوقه والحفاظ على استمرار وجوده في هذه الأرض, وفي هذا السياق تتنزل تصريحات أردوغان الرافضة لإدراج الأميركيين لحركة حماس على قوائم الإرهاب, إضافة إلى فضحه المستمر لأحابيل الدعاية السياسية الإسرائيلية حتى لا تظل مستندا مقبولا لدى ساسة العالم والعمل على حشرها في الزاوية, وهو ما يبدو أن الأتراك سيدفعون باتجاهه إلى أقصى مدى ممكن, وهو ما سيخدم القضية الفلسطينية التي كثيرا ما طعنت من الظهر لأنها لم تجد من يحميها من الخلف.
نجاحات.. ودعم للصمود
حقق الموقف السياسي التركي إذن للقضية الفلسطينية في سنة ما عجز عنه العرب لعدة عقود, فقد قدم هذا الموقف المنافح عن الحقوق الفلسطينية حماية للمقاوم تسند معنوياته في ظل الحرب النفسية والتهديد حتى من الأشقاء, والنموذج المصري وجداره الفولاذي مشهود, وإغلاقه للمعابر وملاحقته للمقاومين وهم على سرير الجراح الثخينة مشهور, وكما قال الشاعر الحكيم قديما:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهنَّدِ
فلا عجب إذن أن تلاقي الوقفة التركية تقديرا, وهي التي حققت عدة خطوات ونجاحات كان من أهمها هذا الهدير الإنساني المتدفق لسفن الحرية المصرة على كسر الحصار عن غزة, والتي أحدثت تحولاً في موقف الأمين العام للأمم المتحدة حتى طالب علنا برفع هذا الحصار, وتليها في الأهمية مواقف جديدة للرسميين العرب بدأت بمطالبة البرلمان الكويتي بإلغاء المبادرة العربية للسلام وتشهد الجامعة العربية «تمرمراً» مماثلاً, إضافة إلى أن هذا الموقف أعطى طاقة جديدة لتفعيل الزخم السياسي والإعلامي وخلق موجات ضغط متصاعدة على الإسرائيليين وحلفائهم وهذا الإنجاز قد لا يحقق تحولات متسارعة في مواقف الأوروبيين والأميركيين, ولكنه سوف يحرق أعصابهم ويؤسس لوعي جديد بالحقوق الفلسطينية على ساحة المتعاطفين مع القضية على الجبهة الغربية المسيحية, ويشجع الناقدين لإسرائيل, ويوسع دائرتهم في دنيا الإنسانية, وهو فعل سياسي وإعلامي من أهم ما تفتقر إليه هذه القضية التي أضاعها أهلها بالتفريط في عقول ومشاعر العالمين حتى كسبتهم إسرائيل في صفها بقليل من السياسة وكثير من التضليل, في غياب شبه تام لخطاب عربي مقبول حول حقائق هذا الصراع يفهمه الغربي ويكون غير قابل لأن تسقط عليه دعايات مكافحة الإرهاب.
ونظن أن الدور التركي في الوقت الراهن لا يمكن أن يطالب بصناعة حل سحري من قبيل ضربة عسكرية أو قطع علاقات مفاجئ لن يخدم القضية بقدر ما سيخلط الأوراق على مستوى الداخل التركي ذاته ويربك مشروع القادة الأتراك ويضعف مصداقيته, ولكن تخفيض التعاون العسكري والتلويح بتخفيض هذه العلاقات إلى أدنى مستوى ربما يكون أفضل من مواقف العرب التي تعودنا على أنها أضعف الإيمان, ولكننا تعودنا أيضا أن لا تأثير لها في نهاية المطاف, ولو لم يحقق الموقف التركي إلا قليلا من الإحراج لإسرائيل وعشاقها من الرسميين العرب لكفانا. والله غالب على أمره وكل شيء عنده بمقدار.