” هذا الخراب الذي وقع بجهة الجنوب وأقطاره أمر له ما بعده” “وانتقض عمرانُ الأرض بانتقاض البشر فخربتْ الأمصار والمصانع ودرستْ السبل والمعالم وخلتْ الديار والمنازل وضعفتْ الدول والقبائل وتبدّلَ الساكنُ. وكأنّي بالمشرق قد نزلَ به مثلُ ما نزل بالمغرب” “وكأنما نادى لسان الكون في العالم
بالخمول والانقباض فبادر بالاجابة والله وارث الأرض ومن عليها” ابن خلدون
ـ1ـ
اسطنبول، جسر القرن الذهبي،
في الدار العالية يتزاحمُ السواح بمنطقة السور البيزنطي. يسألون هذا الكائن المائي المنيع عن الأيام السحيقة لاسطنبول، عن حكايات القصاصين وحروف المؤرخين وتعاقب الزخات الكتومة. تراودهم ألوان حلوى اللعقات أو اللوكوم، يغريهم طعمُها وألقُها، ويغويهم غنجُ وتدلّلُ هذه المدينة، الجدّ شرقية والنصف غربية، بكناها الشاعرية التي تتوزع بابلياً على عددٍ من لغات العالم. بعضُ جيران تركيا مازالوا يستعملون الاسم الاسطنبولي القديم : القسطنطينية، و أحياناً ألقاب موازية مثل روما الثانية أو المدينة …
قدْ يُذكّر لوْنُ هذا العلَم، خصوصاً في هذا المكان، حيثُ يحرصُ القرنُ الذهبي على استبقاء بعض الملامح العتيقة للسور، بما يزعمُه بعضُ الرواة من أنّ امرأ القيس “دخل القسطنطينية رافعا علماً أحمرَ شعارَ ملوك كندة وحمير”.
وحده البوسفورُ رُبّما يَعْرِف السرّ العتيقَ فيما يُعرضُ أحياناً بإفراطٍ عن علاقة “هوميروس الثاني” و”الأمبراطور الروماني الأخير”، عن العلاقة، الحقيقية أو الوهمية، لامرئ القيس بابنة القيصر جستنيانوس الأول. وربّما يحملُ السرّ الرديف في إطلاق اسم عرابيا على ابنة جستنيانوس الثاني، فيما يفترضُه بعضُ المؤرخين المعاصرين (د.عرفان شهيد) من روابط بين الأمبراطورة تيودورا والحارث ابن جبلة وامرئ القيس. فالدرب يستحث الحوافر بين ديار بكر وديار إياد. والمعلّقة تتعرّف على الإلياذة في تلّة “خضرلك” لتقيما معا في أنقرة “ما أقام عسيب”. فلهذا السرو المرهف وللجذوع المهيبة لشجر الطائر ولبتلات الخزامى العثمانية قصةٌ مع الناي الحزين وهو ينضح بالأزمنة المتباعدة. بلْ ربما لهذه الجدران الصامتة وهذه النقوش الحزينة روايتُها عن لَقبِ البطريق ومنْصبِ الفيلارخ الذيْن يَعتقد المؤرخُ مالكوس أن القيصر منحهما هنا على ضفاف مرمرة والبوسفور لصاحب “بَكى صَاحِبي لمّا رأى الدَّرْبَ دُونه وأيقنَ أنّا لاحقانِ بقيصرا”.
ـ2ـ
بلغراد، مطار نكولا تسلا
في كلِّ مرّة أمرّ من هنا يلفت اتباهي اسم هذا المطار. يندرُ أن تحملَ المطارات أسماء علماء ومخترعين. طبعاً هنالك وجعُ الذاكرة وطريقتُها الماكرة في الاستعادة الجزئية. فككثيرين من جيلي “صادفتُ” للمرّة الأولى “تسلا” في السنة الأولى من الثانوية في درْس الفيزياء، حيثُ يحمل كما هو معروفٌ الحثُّ المغناطيسي اسمَه كوحدة عدّ. أكاد أستعيد بألم ووحشة تفاصيل ذلك القسم الرائع في ثانوية الميناء، أسماءَ أغلب الزميلات والزملاء، من بقي ومن رحل. مرتْ برْقياً ثلاثة عقود. الرحمة الوارفة والوافرة على تلك الأرواح الطاهرة. وحفظ الله الآخرين.
في بداية التسعينات في جنوب فرنسا (نيس) تابعتُ الفيلم الشهير “سرّ نكولا تسلا” ـ ظَهرَ قبلَ ذلك بعشر سنوات ـ ثمّ لاحظتُ لاحقاً الاهتمامَ المتصاعد في الثقافة الشعبية الأوربية بالمسار الاستثنائي لهذا المخترع المتعدّد الهويات. وأزعم أن عدداً من زميلاتي وزملائي في الثانوية البعيدة كان لديهم نفس السرّ، ثمّ أضاعتهم رمال الصحراء فيما أضاعتْ.
ـ3ـ
آخن، قصر شارلماني
هنا وُلِـدَ “الغرب” بمعناه المطّاطي. هذه هي مدينة الأسئلة الكبرى. أَعمارُ أسئلتها بأعمار مائها الحراري وزيتوناتها وقريباتها الأندلسيات. اهتمتْ بهارون الرشيد كثيرا ولمْ يهتمَّ بها. كأي سياسي تقليدي لم يرَها لأنّه لمْ يرَ فيها إلا راهنيتها المعاصرة له. ادّعتْ هي أنّه بَعثَ لها ساعة مائية من النحاس الأصفر وفيلاً حربياً أبيضَ باسم أبي العباس. ويَعتقد المؤرخون أوْ بعضُهم أنّها أشياء لمْ تخطر على بال الرشيد. أوربا كلُّها كانت ما تزال خارج التاريخ باستثناء اسبانيا القريبة البعيدة. حتى القرن الرابع عشر لم يكن أحدٌ في العالم الإسلامي أو في الهند أو الصين يرى في أوربا إلّا أرضاً هامشية همجية. ولكن آخن تطرح سؤالا موازيا: مالذي راه ابن خلدون في هذا القرن بالذات كي يكتبَ : “تبدّلتْ الأحوالُ جملة فكأنما تبدّلَ الخلقُ من أصله وتحوّلَ العالم بأسره وكأنَّه خلقٌ جديدٌ ونشأةٌ مستأنفة وعالم محدث”. لو كتب ابن خلون جملتَه بعد انطلاق الثورة الصناعية أوْ حتى بعد اكتشاف الأميركيتين لما بدتْ لا فتة. فعقْـلنة الأحداث بعدياً وتفسيرُها – أو توهّم عقلنتِها وتفسيرِها – بأثرٍ رجعي أمرٌ سائد. الغريب أن ابن خلدون هذا لم يخلُ كثيرًا من السذاجة المفرطة بل والسطحية أحيانا وهو يحاول أنْ يفسّرَ بعدياً بعض الأحداث. بينما جاءَ كثيرٌ من حدوسه وتنبؤاته قريبة من الواقع. لنلاحظْ هنا أنّه حتى ما سُميَ بحركة الإحياء في إيطاليا التي عاصر ابن خلدون إرهاصاتها وتحدّث عنها لم تكن حتى عقودٍ بعد صاحب المقدمة إلا حركة بالغة المحدودية. كان التاريخُ سيطويها وينساها كما فعل مع مثيلاتها لو لم يحصل ما حصل، منذ أنْ أخذَ التاريخ بعد اكتشاف الأميركيتين وجهة “مستأنفة”.