“وإذ قد تبين أن النساء يجب أن يشاركن الرجال في الحرب وغيرها، فينبغي أن نطلب في اختيارهن الطبع نفسه الذي طلبناه في الرجال، فيربين معهم على الموسيقى والرياضة” ابن رشد
ـ1ـ
عُرف عالميا منذ سنة 19555 المتنزهُ الضخمُ الذي يُميز مدينة (لايبزغ) الألمانية باسم (كلارا زيتكين بارك). ولكنّ سنة 2011 حملتْ المفاجأة : فقد نجحتْ مظاهرات في المدينة الهادئة أن تُرغم السلطات على نزع الاسم عن الجزء الأكبر من المتنزّه. لم يكن ذلك تماما ما توقّعه الشاعر لوي آراغون سنة 1977 حين اعتمدتْ هيئة الأمم المتحدة الثامن من مارس عيدا للمرأة تكريسا لمبادرة “زيتكين” التي كانت قد تقدمتْ بها سنة 1911 إلى الاشتراكية الدولية للنساء. اعتقد آراغون أن التوجه الزيتكيني يتقدم حثيثا وأن الأحداث تصدق نبوءاته في روايته “جدران بازل” (1934). ففي الأخيرة حاول أن يرسم صورة لامرأة المستقبل عبر نموذج المناضلة الألمانية. خصوصا أنه ظلّ يلحّ على أنّ مستقبل المرأة هو أيضا مستقبل اإنسانية كما في بيته الشهير : “المرأة هي مستقبل الانسان”. لم يكن إذًا ليتخيل أن الأمور ستتغير في عقود قليلة وأن ذكرى قرْنٍ من مبادرة (زيتكين) هي بشكل ما نهاية أكثر مما هي احتفاء. نهاية لنمط ما من النسوية. وهو أمر مفارقي لأن الخطاب السائد حاليا قد يعطي انطباعا معاكسا.
ـ2ـ
قد يختلف الباحثون كثيرا حول الجذور الفعلية المشتركة التي تؤسس مختلف انواع التمييز التي تعانيها منها المرأة في اغلب المجتمعات. وفضلا عن ذلك فإن الاستقراءات التاريخية على الأقل في معطياتها الحالية تشير إلى قدم هذه الظاهرة رغم اختلاف تشكّلاتها، مما يطرح السؤال في أفقٍ اكثر تعقيدا : هل رافق مثلُ هذا التمييز البشرية َحيث وجدتْ ام أنه ظاهرة تاريخية لها بداية قابلة للتحديد وربما التفسير؟
ويزيد الظاهرة تعقيدا أن الأمر يتعلق بتمييز اجتماعي. وككل تمييز يمارسه المجتمع من حيث هو مجتمع تجاه جزء من مكوناته فإنه ذو محتوى مركّب تناقضي. فضحاياه هم ضحاياه باعتبار معين. وباعتبار آخر هم جزء من منتجيه. فالمرأة من حيث انتماؤها الجنسي الخاص ضحية للتمييز الذي يقوم به مجتمعها. ولكنها من جهة اخرى من حيث انتماؤها العام إلى مجتمعها مشاركة تلقائيا كغيرها في ارتكاب هذا التمييز. فبديهي أنّ المجتمع برجاله و نسائه هو من يعيد انتاج وتأبيد طابعه الأبوي الذكوري لاسيما عبر توريثه تربويا لأجياله الجديدة من البنات والأبناء.
ـ3ـ
تدلّ معطيات كثيرة على قدم الوعي البشري بالتمييز ضد المرأة. فمثلا حين كانت الجزيرة العربية تعرف ظاهرة الوأد كانت كذلك مسرحا لأصوات مناهضة له. وهو ما تشير إليه عدة مرويات كتلك التي تدور حول شخصية بن نفيل العدوي. غير أن التيارات النسوية بالمعنى الحديث ظهرتْ نسبيا متأخرة أواخر القرن التاسع عشر كانعكاس لمرحلة جديدة من مراحل الثورة الصناعية. فالتوسع الأفقي لهذه الثورة والحاجة من جهة الى قوة عاملة ومن جهة أخرى إلى قوة استهلاكية قاد شيئا فشيئا إلى تفكّك نموذج العائلة التقليدية في أجزاء واسعة من المناطق التي عرفتْ الثورة الصناعية في أوربا الغربية. أصبحتْ الأسواق بحاجة الى انخراط ملايين النساء في المصانع والمناجم. أي أنها احتاجتْ إلى إخراج المرأة من العمل المنزلي والزراعي أو الرعوي غير النقدي إلى الانتاج السلعي النقدي الذي لم تعد القوة العاملة الذكورية تكفيه. ظهر إذا نموذج اقتصادي جديد على مستوى العائلة كما على مستوى المجتمع. وبطبيعة الحال فإن ظروف العمال الصعبة ستبدو أكثر قسوة حين يتعلق الأمر بالعاملات. أو بعبارة أخرى فإن التمييز التقليدي في العائلة سينتقل إلى المناجم والمصانع في أجواء أكثر عنفا. وهو ما سينعكس بصور مختلفة في الخطابات السياسية والاجتماعية. فالليبرالية (بالمعنى الأوربي القاري) ستحتفي بهذا التحول على اعتبار أنه رغم قسوته يمثل مرحلة نحو تقدّم ومساواة اقتصادية بين الرجل والمرأة تقود إلى مساواة سياسية واجتماعية. وبالنسبة لردات الفعل لما يسمى يالرومانسية التقليدوية فستدعو إلى إعادة المرأة إلى “جنّة” المنزل والحقل. وهو خطاب سيصل ذروته مع الفاشية الموسلينية. أما الخطابات اليسارية فستهاجم شرط المرأة العاملة باعتباره تكثيفا حديا لشرط الإنسان العامل. فيما ستظهر شيئا فشيئا التيارات التي ستقود خصوصا في النصف الثاني من القرن العشرين ـ أي بعد كتاب (سيمون دبوفوار) “الجنس الثاني” ـ إلى ما سيعرف بالتوجهات الفلسفية النسوية.
ـ4ـ
مثلتْ القضية النسوية جزءا مما سُـمّي بالنقاش الألماني الذي عرفه أقصى يسار الاشتراكية الديمقراطية في ألمانيا قبل وخلال الحرب الأولى. وهو ما ظهر بشكل خاص مع تأسيس الحركة السبارتكية (روزا لكسامبورغ، كارل ليبكنخت، كلارا زيتكين). وقد أثمر هذا المسار لاحقا توجهات مختلفة يجمعها أنها تعتبر التمييز ضد المرأة تمييزا نموذجيا لكل التمييزات الاجتماعية الأخرى (الطبقية، الفئوية، العنصرية، إلخ). فكل مستويات التمييز الاخرى بحكم بنائها على المغايرة والغيرية تفريع على هذا التمييز المؤسٍّس.
المرأة في هذا المنظور تشكّل أول تحدٍّ لأحادية الانتماء. وقد آلت هذا التوجهات في بعض تجلياتها في السنوات الأخيرة إلى أن أغلب المجتمعات التقليدية تميل مثلا الى المبالغة في مطالبة المرأة بإخفاء جسدها أو بالاختفاء في منزلها دون أن تطلب ذلك من الرجل. وتذهب في هذا السياق إلى أن الرغبة الضمنية لأي مجتمع هي اخفاء الاثنينية والغيرية وإخفاء الندية في الانتماء الاجتماعي.
ـ5ـ
لهذا الطروحات الأخيرة مشكلتان معروفتان : أولاهما أن التمييز المشاهد اجتماعيا في العصر الحديث غالبا ما يُظهر المغايرة ويلحّ عليها كما هو الحال في المبالغة في تمييز لباس المرأة ووجودها إجمالا داخل الفضاء العمومي (ولم تتخلّص بعدُ القوانين الأوربية الحديثة من هذه الظاهرة رغم الانطباع الإعلامي المعاكس). أما الثانية والأهم فهي أنّ هذا الطرح يصدر ضمنيا وبإفراط عن المنظور الذي يدين. بمعنى آخر فإن اعتبار المرأة تُعبيرٌ عن الاثنينية والمغايرة يصدر عن رؤية تنظر ضمنيا إلى الرجل كأصل والمرأة كاقتحام خارجي لهذه الأحادية الأصلية. وبلا شك أننا نستطيع ان نقوم بالاستدلال المعاكس لنعتبر المرأة هي الأصل والرجل تفريع. ومن “المصادفات” الدالّة أن المنطق الخاص بكثير من اللغات يميل الى اتخاذ المؤنث أصلا. ففي العربية مثلا كلُّ ما هو أصل ورأس يسمى أمّا، وبالأم ترتبط اشتقاقيا التسميات الأساسية للبنية الجماعية و”الأمامية” للانتماء (الأمّة، أمَّ، الإمام، الإمامة الخ).
غير أن هذه الطروحات أخذتْ منذ (سيمون دبوفوار) وكتاب الجنس الثاني مسارات متضاربة. فمثلا عبارة دبوفوار “لا احد يولد امرأة وإنما يصبحها” عنيتْ في الخمسينات والستينات تركيزا كبيرا على الوظيفة الاجتماعية القدحية التي تسندها المجتمعات للمرأة. المجتمعات في هذا المنظور تؤوِّل ثقافيا التمايز البيولوجي المحدود فيما يتجاوز بكثير دلالاته الممكنة. أما منذ التكوينية وما بعد التكوينية فقد أصبح الطرح الأكثر جاذبية (مع طروحات موازية أقل راديكالية) لدى هذه التوجهات هو أن الانتماء الجنسي (أو الجندري) هو بناء ثقافي محض مستقل عن أي أساس بيولوجي. وبغض النظر عن طابع المبالغة ـ أو اللا مبالغة ـ في هذا الطرح فإنه يمثِّل بشكل خاص اهتمامات مستقلة نسبيا عن مطالب كلارا زيتكين ومؤيديها أي عن مطالب المساواة السياسية والاجتماعية لدى التيارات النسوية الأولى.
ـ6ـ
أحد الأسئلة المركزية اليوم، أو يُعتقد بشكل واسع أنه كذلك، يتعلق في هذا الباب بداهةً بالمسلمين : هل لديهم خصوصية على صعيد وضعية المرأة كما على صعيد الوعي بها ؟ بعبارة اخرى هل هناك شرط نسائي خاص بالمرأة المسلمة كمسلمة، بغض النظر عن الانتماءات الأخرى، شرطٍ تشترك فيه مثلا الإندونيسية والسعودية والمغربية والسنغالية والبوسنية؟ لنفحص ممكنات الاجابة عن هذا السؤال في الحديث القادم.
* مدير مركز الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل