الجابري.. مشروع فكري أم مدرسة فلسفية؟ / محمد الحافظ ولد الغابد

محمد الحافظ ولد الغابدخلّد العالم العربي قبل أسابيع معدودة أربعينية المفكر الدكتور محمد عابد الجابري الذي فاجأ العالم العربي في الثلاثين عاما الأخيرة من حياته بوضع واحد من أهم المشاريع الفكرية في التاريخ العربي الإسلامي الحديث، وتكمن أهمية الجابري الفكرية في كونه قدم أهم استنطاق معرفي لمكامن الذات المعرفية للأمة في سياق 

مقولات النهضة الفكرية للقرون الثلاثة الأخيرة بما وضعته من أسس للتحديث والإقلاع من انحطاط كبوات العصور المتأخرة من عمر الأمة العربية الإسلامية من جهة، إضافة إلى تمسكه بالشروط المعرفية التي أنتجتها الفلسفات الغربية المعاصرة من ناحية أخرى، وقد تقدم المرحوم الجابري بأول محاولة نقدية جريئة لنظم وأدوات إنتاج المعرفة في العالم الإسلامي منذ عصر التدوين وحتى اللحظة الراهنة، ويكفي في أهميتها أنها بشهادة شانئي الرجل وخصومه تشكل لَبِنَة مهمة وعلامة اجتهاد فكري ونبوغ فلسفي بارزة في الحياة العربية المعاصرة.
وبغض النظر عن جدوائية إعطاء أحكام جاهزة حول حصيلة الجابري الفكرية والتي أرى أنها جهد عزيز المنال لمن لا يستسيغ الخلاصات السهلة فقد أردت أن أتقدم بجملة من الملاحظات والإشكالات أثارها الحوار المتقد الذي أشعلته أنفاس الجابري الأخيرة وروحه المطمئنة ترجع إلى بارئ النِّسَمِ، وقد تَضَمّخت في سني ختام العمر المديد بالقرآن تأملا واستكشافا لآخر قطرات وحي الله المنزل لهداية البشر، وهي لفتة قدرية أرجو مع حصولها أن تكون دليلا على حسن الختام والقبول من رب غفور لنفس فاضت وهي تلتزم خط الملة والأمة. أقول ذلك استجابة للأثر النبوي الذي حض في أداء الشهادة حول الموتى بتذكر المحاسن والله وحده هو الغفور الرحيم.
الجابري نابغة الفلسفة في السياق المعاصر
قدم الجابري مشروعه الذي حمل عنوان: «نقد العقل العربي» في أربعة أجزاء تناولت التكوين والبنية والمحددات والأخلاق والقيم الناظمة للعقل العربي خلال رحلته الإنتاجية الطويلة عبر القرون، وتناول الإنتاج الفكري النهضوي المعاصر في سِفرين آخرين هما «الخطاب العربي المعاصر» و»نحن والتراث» وهي كلها أعمال عبرت بعمق عن ميلاد فيلسوف المغرب المعاصر الذي سيكون عنوان مدرسة فلسفية منقطعة النظير في العالم العربي المعاصر ولا نظير لها من حيث السمات والخصائص المنهجية والإبداعية في المشرق، رغم بروز أسماء كبيرة بدءاً بعلي سامي النشار وعبدالرحمن بدوي وزكي نجيب محمود منتصف القرن العشرين وأخيرا من معاصري الجابري الطيب تيزني وحسن حنفي، فكل هذه القامات الفكرية والفلسفية رغم ما أسهمت به في مجال تحقيق وبعث التراث الفلسفي العربي القديم على سبيل المثال جهود سامي النشار وعبدالرحمن بدوي في التحقيق وإعادة الانبعاث وما قامت به من جهود لتَبْيِئَةِ إشكالية الحداثة في سياقات تحولات الفكر والاجتماع العربي المعاصر مثل جهود حنفي وتيزني غير أن محمد عابد الجابري -رحمه الله- تميز مشروعه بإعادة تشريح التراث العربي في جانبين: أحدهما العصور القديمة منذ عصر التدوين (حوالي 140 هجرية حتى القرن 13 هجري) وثانيهما إعادة تفكيك أسئلة النهوض المعاصر تحدياتها واستجاباتها من جهة وما أنتجته من تبيئة للتحديث منذ محمد علي باشا مرورا بجهود المصلحين الكبيرين محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وما تلاهما من جهود فردية وجماعية.
وقد ركز الجابري على إعادة قراءة التراث العربي في أبعاده المختلفة وسبر أغواره معرفياً ومنهجياً وأبستمولوجياً محللاً أدوات إنتاج المعرفة العربية الإسلامية عبر منهجية معيارية صارمة طبقها على ما أنتجته العقول في عشرات الحقول المعرفية المؤسسة لانطلاقة الثقافة العربية الإسلامية، وليصوغ من ذلك نظريته التي تعتبر كشفا جديدا لوجود ثلاثة أنظمة معرفية كامنة في الثقافة العربية هي: النظام البياني والنظام العرفاني والنظام البرهاني وليؤسس على تشخيصه نظريات فلسفية جديدة من أهمها:
- تأكيده على أن سر التخلف (ضعف الاجتهاد والإبداع) الذي عرفته الأمة ناتج عن غزو تسلل إلى عقل الملة من الخارج في إشارة لـ»هيمنة» الفلسفات «الهرمسية» و»الغنوصية» والخرافات الصوفية التي أصابت نبض الأمة بالشلل، أو كما يعبر الجابري بمصطلحه الجديد في حقل الدراسات العربية الفلسفية ما بات يعرف بـ»هيمنة العقل المستقيل في الإسلام» على حياة الأمة ونبض الملة.
كما ركّز الجابري على إنتاج نظرية جديدة في شأن التجديد مؤكداً أن التجديد في الثقافة العربية يجب دائما أن يكون من الداخل «عملية التجديد من الداخل وحدها هي القادرة على إتاحة الفرصة لإعادة البناء فعلا العملية طويلة وشاقة ولكنها جادة» (المدخل للقرآن ص 396) ولا بد هنا أن نشير إلى أن مسألة التحديث افترضت إلغاء التراث والبدء في نقل الجديد من أوروبا دون تمحيص، ما جعلها تصطدم بمُعطى الهوية الدينية الرافض لهذه العملية والمتجه بفعل ردة الفعل للانغلاق على الذات ولكن الجابري يعيد القضية إلى مجراها الطبيعي الاجتهاد من الداخل عقل الأمة للاستئناف.
ومن المعالم البارزة في حياة هذا الفيلسوف الكبير أنه عاش حياته كفافا بعيدا عن تقديم أي خدمات لحكومات الطغيان الاستبدادي والانحراف السياسي، ولكنه عاش في قلب الزحف الوطني النضالي من أجل الانتصار في معركة التخلف التي تكدح من أجلها جماهير وقوى الأمة الصادقة، ويكفي في هذا السياق الاستئناس بشهادتين: أولاهما نجدها عند جورج طرابيشي الذي كان عادلا في خصومته الفكرية للجابري رغم النقد اللاذع يقول: «إن هذا الكتاب (أي نقد العقل العربي) لا يثقِّف فقط بل يغيِّر، ومن يقرأه لا يعود بعد أن يقرأه كما كان قبل أن يقرأه»، وطرابيشي نفسه يعتبر أن الجابري هو الذي حقق في حياته نقلتين هامتين: الأولى «نقلني من الإيديولوجية إلى الإبستملوجية أي من الكلام في الأفكار بإيديولوجية معينة إلى علم معرفة المعرفة، أما النقلة الثانية فإنه قد أجبرني على أن أعيد بناء ثقافتي التراثية».
أما الشهادة الثانية فنجدها عند الفيلسوف الكبير طه عبدالرحمن الذي يعتبر هو الآخر من ناقدي الجابري والذي يشيد بما يسميه تيار اليقظة الفلسفية المتميز الذي عرفه المغرب العربي خلال العقود الأربعة الماضية، ولكن أي إنسان منصف لن يقبل بوجود هذا التيار المغاربي إلا إذا كان محمد عابد الجابري في صدارته، فهل سيتحول الجابري بعد وفاته من صاحب مشروع فكري فلسفي إلى رائد للمدرسة الفلسفية العربية المعاصرة بعد أن تنتفي عوائق المقولة الشهيرة: «المعاصرة تمنع المناصرة»؟ ذلك ما نرجحه والله وحده المسؤول أن يتغمد الجابري بواسع الرحمة وغفران الزلل.

3. يوليو 2010 - 0:00

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا