الأبعاد التجديدية في شخصية محمد حسين فضل الله / محمد الحافظ ولد الغابد

محمد الحافظ ولد الغابدودّع العالم الإسلامي خلال الأسبوع الماضي علما بارزا من أعلام الملة ومجددا يعز نظيره في المجددين في المذهبية الشيعية والفكر الإسلامي، لما عرف به من جرأة ومواقف ميزته عن غيره. فقد أحيا الرجل بمواقفه الفذة سيرة المصلحين المؤثرين في مسيرة الإحياء الإسلامي العام، وأعاد الأمل للأمة بإمكانية جمع 

الفقيه بين القيادة الميدانية للفعل الزمني اليومي والأداء الروحي التعبدي، تجسيدا للقدوة الأعمق تأثيرا في حياة البشر بكل أبعادها الروحية والدنيوية.
العلامة محمد حسين فضل الله من النماذج النادرة التي حققت ذلك التوازن المطلوب في الشخصية الإسلامية، من خلال الجمع بين هموم الآخرة رقياً في مدارج الروح نحو الملأ الأعلى، والثبات في صف الزحف المقاوم ومعافسة الواقع المنحرف عن قيم الدين تصديا لمشاريع الهيمنة الغربية من جهة والانحرافات الخطيرة في الفكر والسلوك التي عرفتها الأمة في فترات ضعفها الماضي، وتعرف منها في هذا العصر أطواراً جديدة تنخر جسم الأمة تغريبا وتخريبا. غير أن قدر المجدد في كل مذهب يتطلب دائما الجمع بين ما لا يأتلف في العادة والعرف، والخروج على مألوف الناس إصلاحا للخلل تسديداً ومقاربة.

الفقيه المقاوم لمشاريع الهيمنة

تطغى صفة "الفقيه المقاوم" بالممارسة لجهاد الدفع عن البيضة والحوزة في دار الإسلام على شخصية الفقيد أكثر من غيرها، نتيجة لمساهماته الواضحة في مشروع حزب الله أو المقاومة اللبنانية التي هي في الحقيقة حالة نفسية اجتماعية فيما آلت إليه تحولاتها الأخيرة، أكثر من أن تكون مشروعا حزبيا محدودا لطائفة محددة، وإلا لما استطاعت أن تصل للإنجازات والصمود الأسطوري الذي حققته في العشرين عاما الأخيرة. ذلك ما يدركه بجلاء متابعو مسيرة المقاومة اللبنانية ونموذجها المتفرد "حزب الله" الذي صنع الانتصار في زمن الانكسار، ومهما اختلفنا واختلف الكثيرون مع ذلك الحزب، فستظل تلك الحقيقة أوضح من الشمس. فقد احتضن الشيخُ المشروعَ ورعاه، وهو لا شك أحد القادة المهرة لزوارقه وسفنه المبحرة نحو التحرير و "التمكين" مهما عُرف عنه من مواقف ناقدة لبعض مواقف الحزب النواة في مشروع المقاومة، وهي انتقادات تأتي بدوافع الحُنوّ حدَباً وإشفاقاً على المشروع في تحولاته المتسارعة من أن تزيغ به الروح الحزبية والطائفية الميالة نحو الانفراد والعُكُوفِ على الذات والخصوصية وأدواتها غير الاستيعابية، في الوقت الذي يتطلب المشروع باستمرار الحفاظ على وعاء جبهوي وُحدَوي حاضن يحمي المشروع ويمده بالنفس الطويل، مما يوفر له مساحة لمُرَاغَمَةِ العدو ومشاغبته وجره باستمرار لمعارك استنزاف طويلة النفس، تمهيدا لصناعة إنجازات ونجاحات تمنح الشرعية لاستمرارية التضحية الوطنية والاجتماعية من أجله. وهذا ما أنجزه فضل الله للمقاومة عبر خطابه الذي اتجه من ناحية للتيارات اللبنانية العلمانية والمسيحية من جهة، حتى تساهم في بناء الحلف الوطني الحاضن للمقاومة، واتجه أيضا لحزب الله والتدخلات الإيرانية لتشذيب النزعة الحزبية والطائفية المتأصلة، حتى تكون أكثر دُربَةً على الحوار والاشتراك في الأداء السياسي العام مع كل من يقبل من ألوان الطيف السياسي الوطني -والتنازل له مهما كانت التنازلات مؤلمة- ما دامت نتائج المآل والمحصلة النهائية ستخدم المشروع المقاوم وتحميه، ويوم تبوح المقاومة بسرها المكنون ستقول: كانت تلك إنجازات محمد حسين فضل الله للمقاومة الإسلامية في لبنان العطاء والصمود.
مواقف الفقيه المرجعي من مشروع المقاومة لا تحتاج إلى تزكية أكثر من تعرضه لمحاولات الاغتيال على يد إسرائيل مارس 1985، وكذا مصادرة آراء الذين عرفوه حتى بعد موته.. فقد أقالت الـ "سي.أن.أن" أبرز صحافية تعمل بها منذ 20 عاما، السيدة أوكتافيا نصر رئيسة قسم الشرق الأوسط في الشبكة، بعدما نشرت تعليقا مشيدا بالرجل ومواقفه المنفتحة على الثقافات الإنسانية المختلفة، واتخذت وزارة الخارجية البريطانية موقفا مشابها من سفيرتها بلبنان التي نشرت مقالا جاء فيه: "عندما تزوره، يمكنك التأكد من حدوث نقاش فعلي وجدل في جو من الاحترام، وعليك أن تثق بأنك ستغادر مستشعرا بأنك أصبحت شخصا أفضل". وقد علق متحدث باسم الخارجية البريطانية قائلاً إن النص الذي كتبته السفيرة فرانسيس غاي سُحب لأنه "رأي خاص" حول فضل الله، الذي تعتبره الولايات المتحدة "إرهابيا".

الفقيه المجدد للمقولات المذهبية

مارس فضل الله التجديد في الفقه الشيعي، وجرت بينه وبين علماء مذهبه محاورات ومناظرات كثيرة تركزت حول إنكاره لكثير من البدع التي يرى أنها لحقت بالتشيع، حيث أفتى بحرمة خدش الرؤوس بالسكاكين في احتفالات عاشوراء التي تقام بمناسبة استشهاد الإمام الحسين عام 61هـ والتي يحتفل بها الشيعة كل عام، حيث اعتبر فضل الله أن هذه الممارسة تنطوي على إيذاء للنفس والبدن من جهة، كما تشوّه المسلمين وعقيدتهم الإسلامية أمام العالمين في عصر القرية الكونية، حيث تستخدم هذه الممارسات لتشويه الدين الإسلامي. كما لم يعترف بالرأي الفقهي القائل بولاية الفقيه، وأبدى تحفظات على سياسات الثورة الإسلامية في إيران، حيث دعا الشيعة -خصوصا العرب- للاندماج في أوطانهم وخدمة مجتمعاتهم من داخل الأنظمة والأنساق السياسية والجمعوية الموجودة، بعيدا عن مقولات تصدير الثورة التي رعتها إيران ووصل تأثيرها حتى لبعض الحركات الإسلامية السنية في العالم العربي، ولعل من أبرز نماذج ذلك التأثير حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين. وأفتى فضل الله بحرمة القتل "بدعوى حماية الشرف"، أو ما بات يعرف بـ "جرائم الشرف"، وأباح للمرأة الدفاع عن نفسها إذا تعرضت للضرب من زوجها أو أخيها، وأنكر رواية ضرب الزهراء التي تحدثت عنها مصادر الشيعة، مما أثار عليه انتقادات حادة للفقهاء المقلدين من المذاهب الشيعية المختلفة.
ويعد فضل الله في العرف الشيعي من تيار الفرقة البترية (اصطلاح شيعي)، التي تجمع بين صحة ولاية الخلفاء الراشدين وولاية أهل بيت النبي (صلى الله عليه وسلم)، ورغم أن الرجل يعتبر من خريجي الحوزات العلمية، وحائز على أعلى مراتبها، إلا أن الكثير من مراجع الشيعة لا يعترفون بمرجعيته ويعتبرونه متأثرا بالفكر الإسلامي السني المعاصر خصوصا ما يسمونه بالوهابية.

المجادل بالحسنى للآخر

ومن أبرز المعالم التجديدية في شخصية فضل الله، أنه المرجع الشيعي الأبرز الذي يتخذ من الحوار والجدال بالحسنى أداة للتعبير عن رؤاه، فهو دوما يدعو إلى الحوار والنقاش الجدي مع المخالف في الدين والمخالف في فروع العقيدة والفقه، أما العمل السياسي فلا سياسة ناجحة بدون الحوار الذي يعبر المساحات المحظورة ويقتحم المسكوت عنه. وقد عبرت عن هذه الحقيقة السفيرة البريطانية في لبنان في مقالها المُصادر، تقول: "العالم يحتاج إلى مزيد من الرجال مثله، أولئك الذين يرغبون بمد اليد إلى ما بعد المعتقدات، وإقرار حقيقة العالم المعاصر، ويتمتعون بالجرأة على مواجهة القيود القديمة".
ويعتبر فضل الله من الذين ساروا باجتهادهم الفكري في اتجاه جَسر الهوّة ما بين الشيعة والسنة، على ذات النهج الذي اهتمت به دار التقريب بين المذاهب التي كان يرعاها الإمام الشهيد حسن البنا وعدد من علماء الأزهر، من أبرزهم الشيخ محمود شلتوت، ومن الشيعة نواب صفوي زعيم منظمة فدائيان إسلام، وعلي شريعتي وأحمد الكاتب، وهو المشروع الذي أجهضته عدة عوامل من بينها استيقاظ الفكر السلفي، لمواجهة مد الثورة الخمينية وما تلاها من تنافس سياسي محموم. ولا يتسع هذا المقال للبسط في تلك السياقات والعوامل، وإن ما يهمنا بيانه فقط هو أن جهود محمد حسين فضل الله سارت على ذات النهج وخدمت مشروع التقريب بين الطائفتين الكبيرتين في الأمة، على مستوى التنظير والممارسة.

المجدد بأدوات عصره

يعتبر فضل الله من أكثر المراجع الشيعية استخداما لأدوات الإعلام المعاصر، وهو في هذا المنحى يقارب العلامة الدكتور يوسف القرضاوي على مستوى العالم السنّي، حيث اشترك الرجلان في استخدام مختلف وسائل الإعلام، وانفتحا على الحياة العامة إلى أقصى مدى ممكن. ويعتبر فضل الله رائد مدرسة فقهية فكرية جديدة على مستوى مذاهب الشيعة، وهو إلى ذلك شاعر له دواوين، وأنتج حوالي 200 كتاب في المجالات الفكرية والأدبية والفقهية والابتهالات التضرعية، كما أنه اختط لنفسه أسلوبا بيانيا قريب المأخذ في اللغة، ولكنه بعيد الغور متجذر الأصالة، وهذا ما أضفى على أسلوبه الخطابي سحرا لا يدانيه فيه إلا القليل من الخطباء، إضافة إلى تركيزه على ثنائية الخطاب العقلاني المؤثر الممزوج بالعاطفة والمشاعر الإنسانية الجياشة، ولا يمكن لمن ينصت إليه إلا أن يتأثر به ويقدّره مهما كان مختلفا معه. رحمه الله رحمة واسعة. 

17. يوليو 2010 - 0:00

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا