سيكوسوسيولوجيا العنف الإرهابي / د.بدي ابنو

يبدو العنف الإرهابي، بمعناه الرَّاهن، في النظرة الأولى، وكأنّه مجاني. يطرحُ ذلك عدة تساؤلات عن الحركات، الحقيقية أو الوهمية، التي يُتحدث عنها كمتهمَة رئيسة بالتورط في العنف الإرهابي وعن “منطق” البنيات الخلفية والتواطؤات المباشرة وغير المباشرة. كما يَطرح سؤالا أكثر تعقيدا عن الذاتية

 الخاصة للمتورطين المباشرين، وعن علاقة العنف بالمجتمعات المستهدفة به.

صحيحٌ أنّ العنف التفجيري المنتشر الآن في كثير من دول العالم يبدو أقرب في ظاهره إلى المجانية. ولكنّها “مجانية ” تستثمرها جهات كثيرة إلى أقصى الحدود. عَشْر مستويات متداخلة في هذا الباب حَرية بالاعتبار.

1- ضحايا العنف التفجيري هم في الأعمّ ضحايا بالمعنى المطلَق للكلمة. إنه عنف بالتساوي لا يميز في عشوائيته. وإن ميّز فعلى حساب ذوي الظروف المتواضعة ممن لا يتمتعون بحماية خاصة ولا بتعليمات خاصة ولا بمساكن خاصة ولا بعناية طبّية خاصة. فهو من هذه الناحية يقع تحتَ توصيف ما تسميه اللغة القانونية “بالجريمة ضد الإنسانية” لأن المسؤول عن التفجير، تخطيطاً أو تنفيذاً، بحكم مطْلَقية صفة من يُضحي بهم، لا يستهدف بالقتل أشخاصاً معينين. فكل ضحية في مثل هذه الحالة ليسَ إلا “وسيلة” بالمصادفة، وكلُّ إنسان آخر يمثل بشخصه ضحية “بالقوة”.

2- إنه يبدو فعلا الغايةَ لا الوسيلةَ بصفته التعبيرَ الأكثر أوجية للإرادة المحبطة. إنه يبدو بمختلف المعايير نقيضاً لكلِّ أسلوبٍ ينحو إلى تحقيق غايات سياسية بما هو استهدافٌ عشوائي للكافة. فتنامي العنف العشوائي لا يكشف فقط عن تنامي الإحباط في المجتمعات التي يفشو فيها، وعن الدور الذي يلعبه القمع المادي والرمزي بمصدريهما، الدولة والمجتمع، ولكنه يكشف فوق ذلك، بمقتضى تناميه، عن أن أزمة حقيقية في آليات التعبير عن موازين القوى القائمة وفي آليات التعبير عن رفضها والرغبة في تغييرها أنتجتْ في كثير من المجتمعات الإسلامية نوعا مما يمكن أن نسميه عقلية “اللامعنى”، أو عقلية التصرف العبثي التي يمكن أن يكون شعارها السيزيفي: لا تُرجى نتيجة، لا يؤمّل خير.

3- لا تمكن إذاً مواجهة مصادر العنف دون إعادة نظر شاملة في التمفصلات الاجتماعية والمؤسسية التي يمكن أن تكون جزءا أساسا من مادّته الخام التي توظفها من بعدُ الآليات التي تساءلنا عنها. كيف يتعامل كل من يمارس مستوى ما من السلطة ولو في أبسط تمظهراتها مع بقية المواطنين، وخصوصا في الحالات التي يَكون فيها في صحبة ـ أو في مواجهة ـ الموضوع المباشر لسلطته ؟ كيف يتعامل في تلك الحالات مثلا الموظف الإداري والشرطي والضابط والجندي والقاضي مع مواطنيه؟ كيف تعلن سلطتُه الرمزية والمادية عن نفسيهما في تصرفاته التي لا تشكل أقوالُه إلا جانبا منها؟ يبدو السؤال طبعا أكثر إلحاحا حين يتعلّق بالفاعلين التربويين أي بالأب والأم وبالمدرّس والمشرف إلخ. من هنا أهمية الإلحاح في المَنطوق والممارسة على أنَّ العنف يمثل نقضا مطلقا لكل ما تعنيه الكرامة الآدمية أو الكرامة الإنسانية، كرامة الإنسان الناطق. فالعنف يلغي من الاعتبار ما به يكون الإنسان إنسانا إذْ يعني من بين ما يعني النظرَ إلى الإنسان كمجرد وسيلة، كمجرد أداة. وهو إذن دوسٌ على كرامة مخطِّطِيه ومنفذِيه قبل أن يكون دوسا على كرامة ضحاياه.

4- الإرهاب يبدأ غالبا في مخافر الشرطة قبل أن ينتَهي في الشارع. ومن مخافر الشرطة تخرج الراديكالية العدمية، وفي مخافر الشرطة يولد الحقد على المجتمع بل على النوع البشري، وفي مخافر الشرطة تُصاب الأدمغة بسرطان الضغينة والحقد الأهوج وغليان الإحباط. مخافر الشرطة هي التي تُفرخ بشكل أو آخر القنابلَ البشرية التي لا تقيم وزنا للإنسان وحياته ومصيره، التي لا ترى في الجموع البشرية إلا حطبا لجحيمها الأرضي. الإرهابي الذي تكمن نشوتُه في القتل العشوائي هو الابن البار لرجل الأمن الذي ينتشي بالاعتقال والتعذيب. فتضامنهما الموضوعي تضامن عضوي، كل منهما “يُبرر” وجود الآخر بل كل منهما يَمنَح الآخر وجوده.

5- أحد العناصر الدالّة لدى التنظيمات الدموية المعاصرة في العالم الإسلامي هي أنها تشترك مع الإسلاموفوبيا في نفس المُسَبَّقات. إنها بمعنى ما مرآة لها وإثبات لسريان مفعولها. والمقابل صحيح. لا يتعلق الأمر بالإسلاموفوبيا الحالية فقط بل أيضا بالإسلاموفوبيا التاريخية الأكثر انغراساً. لعبةُ المرايا بين الطرفين تسمح لنا دون مبالغة أن نزعم أن تيارات العنف الهمجي الحالي هي أساساً إنتاجٌ حداثي ليس طبعاً بالمعنى الشعبوي التآمري ولكن مِن مَنظور التحوّلات الاجتماعية على صعيدي الواقع والتمثّل. هذه التيارات هي بِشكلٍ ما جزءٌ لا يتجزأ من إيديولوجيا الإسلاموفوبيا ومن الدور الذي تلعبه سياسياً واقتصادياً على الصعيد الجيوستراتيجي.

6- كثيرٌ من الظواهر الإعلامية الإسلاموفوبية خَلَقها في البداية الذين تظاهروا ضدّها. لولاهم لما كانتْ. همْ مِن حيث يَدّعون الدفاع عن الإسلام أو عن المسلمين مَن يعطون للعنصريين موقعاً. ومن ثمّ أصبح استفزاز المسلمين هو الطريق السويقي الأسهل. من لم يستطع بيع فيلم أو رسم أو كتاب أو أغنية تكفيه جملة صغيرة ضدّ المسلمين لكي تخرج جموعٌ غوغائية ضده فتضمن لِمُنتَجه الكاسد سوقاً مليونية. أصبحت هنالك لوبيات، وشركات وسياسات دول ترتكز في جوانب من خرائطها التسويقية على هذه الانفعالية “البافلوفية” المُتزايدة لدى المسلمين.

واستطراداً يكفي النظرُ في أي من كتب الفرق أو الحوليات الإسلامية القديمة لمعرفة أن أغلب ما يقوله أو يكتبه الآن من يسيئون للمسلمين قد قيل وكُتبَ أبشع منه منذ قرون دون مصادرة. بل واحتفظتْ به لنا آلاف المؤلفات الإسلامية. كُتبَ في أماكن ودول وإمبراطوريات تاريخية يحكمها مسلمون. وأن القبول بالتعدد وبالآراء الصادمة كان في الأغلب الطابع العام لدى المسلمين. وأن ثقافة الانفعال الاندفاعي الحالية هي أساساً ظاهرةٌ حديثة وليست إرثاً تاريخياً إسلامياً ومن البديهي أنها ليستْ مؤشراً إيجابياً.

7- إذا نظرنا في الأدبيات التي أَسّستْ نظرياً لما يُسمّى بـ”العنف الديني” في العالم الإسلامي خلال العقود السبعة الأخيرة فسنجد لعبة المرايا هذه منتشرةً في صُلبها. الإسلام بدلالاته الدينية والتاريخية التعدّدية تمّ إلغاؤه بنسبةٍ مُعتبرة في هذه الأدبيات. تمّتْ إعادة تأويله اختزالياً. فهي أساساً أدبياتٌ صادرة عن عالم المفردات الحديثة حتى حين تَستنفر نصوصاً دينية وأقوال علماء قدماء. أي أنّ ظاهرة العنف الديني في تجليّاتها الحالية هي ظاهرة لادينية. هي في جوهرها وتمفصُلاتها المركزية ظاهرة حداثية وما بعد حداثية مستقلة إلى حدٍّ كبير عن الإسلام كَوَحي بل وعن الإسلام كتاريخ. يكفي هنا أن نتساءل عنْ أصول المترطين في العنف الإرهابي، وأن ننظر في الجنسيات الأكثر حضوراً وعن الأفق السياسي والتربوي للبلدان التي “تُصدّرهم”. فالمسار الشخصي للأفراد الأكثر عنفاً داخل هذه المجموعات غالباً ما يُظهر هشاشة علاقتهم بالثقافة الدينية وعَرَضية هذه العلاقة. تماماً كما أن الوعّاظ والخُطباء الأكثر شعبيةً لدى هذه المجموعات يَـصْدرون في توظيفهم للنصوص الدينية عن ترسانات الاختزال الإيديولوجي السلعي الحديث وآلياته الدعائية ومعاييره الاستهلاكية. ويتميَّزون بِقطيعةٍ واضحة مع أفق المعارف الإنسانوية التي تُمثِّل أرضية الأنساق التأويلية للمتون الكلاسيكية.

8- ولكنْ إذا طرحنا الموضوع على طريقة الاستدلالات الجنائية أي إذا تساءلنا من هو المستفيد من الجريمة فإن الإجابة تزداد تركيباً. فالفرصة التي تمنحها هذه التفجيرات في تجميد وتخدير كل حسٍّ نقدي وكل توقّدٍ عقلي لدى الأغلبية هي فرصة “تسويقية” و”رأسمالية” استثنائية من منظور ما يشْرحه رأسمالياً علمُ النفس الاجتماي، أي من منظور الممكنات التسليعية لسيكولوجيا الحشود. فإذا كان العنفُ يَفقد مبرَّره “عندما يمرّ أمام محكمة العقل”، بحسب عبارة “كانت”، فإنَّ مكانة العقل مفقودةٌ في محاكم العنف. الخوفُ بكلّ أنواعه عدو للعقل، يحيّده ويشرعنُ إقالتَه. وحين ينتشرُ الرعب الإرهابي يَسهل إذن استغفال اليقظة المواطنية للمجتمعات لتدمير هوامش الحرية ولتوظيف الغرائز البدائية التي يؤجّجها الرعب. فمن السهل استثارة الغرائز السُفلى في الإنسان حين يتمّ تحييد العقل. تصبح عنتريات الحقد والانتقام والضغينة هي وحدها التي يُصفِّق لها الجميع ويجدها وحدها وجيهة. يصبح الاعتداء على الآخر لأنه آخر مَحلَّ تصفيق واعتداد. تصبح ثنائية “النحن” و”الهم” هي المُبَنْيِنة. “الآخرون هم الجحيم” كما في العبارة السارترية. ولا تقبَلُ الاندفاعات الحشودية بطبيعتها ومن أي كان إلا الالتحاق بإجماعها، أو بما تتوهم أنه إجماعها. ووسائل الإعلام الجديدة تُمثّلُ أكبر حليفٍ لهذه الاندفاعات ولطابعها المعادي للعقل.

9- التأثّر والصدمة والخوف وتدفّقُ المشاعر لا يعني لمثلِ هذه الوسائل إلا سوقاً ضخماً عل الصعيدين المادي والإيديولوجي. تصبحُ الإثارة والتحريض والتأجيج “مُبرَّرة” ومنسجمة مع ذهنية المُتلَقي. تصبح أبواب الأذهان مفتوحة على مصراعيها ويصبح الحس النقدي غائباً أو مُتبلّداً.

ومن ثم ينضاف الحس النقدي والعقل الجماعي واليقظة المواطنية وهوامش الحرية التي تتحقق في الغالب بأثمان غالية إلى القائمة الطويلة لضحايا العنف الأعمى.

10- المقاتل هنا لا يقاتل فقط الجميع بمنْ فيهم نفسَه، ولكنّه أيضا يحوّل الجميع إلى مقاتلين. كلُّ شخصٍ يمكن أن يموتَ معه من أجل قضيّته. لم يعد يحتاج إلى أن يتبنّى القضيّة أصلا وبالتّالي لم يعد يحتاج إلى أن يجعل الآخرين يتبنّونها. فتبنّيهم كتبنّيه تلقائيّ، قَبْلِيّ لأنّه لا يصدر عن استراتيجيّة إقناعيّة ما وإنّما يصدر عن وجودٍ يعلن بذاته عبثيّتَه. فهو يجسّد لحظة اختراق لكلّ دليل ولكلّ محاججة. فالقبول بمبدإ الاستدلال أو البرهنة يعني تلقائيّا مستوى ما من التّفكير، من التّمهّل، من المراجعة، أي من الأنسبَة. وهو ما يتناقض حَدِّيّاً مع ما يحتاجه العنف من مطلقية. الخوفُ ليس فقط حليفاً خارجيّا لهذا العنف العشوائيّ، أي ليسَ فقط حليفا لدى ضحاياه من غير منفّذيه ولكنّه أيضا حليفه لدى الّذين يمثّلون أدواته المباشرة. الخوف من كلّ ما يمكن أن يجعل ممارستهم محلّ مساءلة. فحاجتهم الأساسيّة تفرض أن يظلّ العنف في مستوى البداهة، في مستوى الممارسة المباشرة كبديل عن نظام الكون، أو كأنّها هي ذاتها النّظام الفعليّ للكون، أو نظامه “الطّبيعيّ” البديل. فكما هو معروف يمثّل الخوف لدى الأفراد والجماعات الأداة الأنجع ليس فقط في انتصار العنف ولكن أيضا وخصوصا في انتصار منطقه. فهو نفسُه أداتُه إلى تحويل الإباحيّة المشهديّة الخاصّة بالعنف من إثارة الاشمئزاز إلى العكس تماما: إلى إحكامِ جاذبيّةٍ مغناطيسيّةٍ على أذهان العدد الأكبر أيّا يكن تبعا لتلك التّرجمة الميدانيّة الّتي سيأخذها مثل هذا التّأثير المغناطيسيّ الاستثنائيّ. العنفُ هنا لا يصبح حالة طاغيّة ولا فقط حالة عامّة ولكنّه يصبح قانونا عامّا.

13. مارس 2017 - 8:18

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا