حتى الآن لا يُعرف هل يكتمل التعديل المنشود، خصوصًا أن مرحلة تصويت مجلس الشيوخ قد لا تكون مضمونة، إلا أن ما يجري في هذا الاتجاه يؤكد توريط الوطن في مسار انقلابي تلاعبي صرف، للأسف البالغ.
البرلمان بمثل هذه التصرفات، وخصوصًا على مستوى الجمعية الوطنية، يعكس ويُعبر بوضوح عن جهة ولائه.
فالسلطة هي جهة ولائه، بدل أن يكون ممثلاً لشرائح الشعب المسكين الذي انتخبه.
فأقرّ علمًا مثيرًا في جو غير توافقي ومرحلة سياسية استثنائية بامتياز.
ومن الجدير بالذكر أن ولد عبد العزيز بعدما تزعمَ انقلابين وعدة عمليات تزوير انتخابي ونهب جلي للممتلكات العمومية، تجاوز إلى التلاعب بالرموز الوطنية الدستورية، علمًا ونشيدًا وحل إحدى الغرفتين البرلمانيتين.
كل هذا يُشكل دون شك إساءةً بالغة للشعب الموريتاني، واقتناصًا سلبيًا انتهازيًا للحظة ضعف عام، جرى فيها السعي لهدم جزء مُعتبر من الإجماع الوطني، مما قد يفتحُ الطريق سلبًا أمام دعوات غريبة، لا يُساعدُ على الوقوف في وجهها وحبسها مُسبقًا من التحرك إلا صيغة الإجماع أو قريب من ذلك في التعامل مع القضايا الوطنية الكبرى.
إن ما جرى من فرض التعديلات الدستورية حتى الآن، يدل على أن النظام القائم مصر على تمرير أجندته، ليحكم البلد حاضرًا ولاحقًا على ذوقه الخاص، ضمن خطة توريث راجح لخليفة عسكري "مأمون" يواصل المسار العسكري الاستحواذي ويتماشى مع الديمقراطية مجرد شعار لتمرير كل ما يراد، عبر كتائب برلمانية ونُخب مدجنة، لا تعرف إلا مصالحها الضيقة ،ولا تهمها كثيرًا صلة النسب مع الوطن والشعب، لتتحول موريتانيا إلى ساحة تجارب، لتنفيذ أفكار بعض العسكر في مجال الحُكم، لتفريخ نمط سلطوي جديد، ظاهره الشعارات الديمقراطية الرنانة وواقعه الرضوخ التام لإرادة العسكر فحسب وباختصار شديد.
وتدريجيًا عبر هذه التصرفات المتعجرفة ضد دستورنا، تتضحُ عمليًا هشاشة الديمقراطية الموريتانية، إن صح الإطلاق أصلاً.
تحرك الشارع في المقابل، أكد تماسُكَ المعارضة الراديكالية الموريتانية ضد هذا التلاعب المهين بالدستور، وأهمية الشعبية المصاحبة لهذا الرفض المشرف، إلاأن خطر الالتفاف على الإرادة شعبيًا، ما زال محتملاً، بسبب تدخل العسكر في المجال السياسي وارتهان الكثير من المدنيين، للاعتبارات المصلحية الضيقة، بدل روح الوعي والاختيار الحر الجريء.
ولكن هذا الخنوع والتماهي الظاهري، لا يعني البتة، الانتصار النهائي لمخططات الانقلابيين، سواءًا من الفريق العسكري أو المدني.
فمفاجآت الشعوب لا يمكن التنبؤ بها، أو محوها من حساب التوقع القوي والاحتمال الراجح.
ومن أهم دلالات هذه التعديلات الدستورية الجارية ضعف المشروع الديمقراطي الموريتاني.
فلن تتمكن ديمقراطيتنا المحلية من ميلاد كامل ذي بال، دون الاستقلال والابتعاد عن قبضة العسكر ومخططاتهم ونزواتهم المتنوعة للسيطرة على مقاليد الحكم.
فما دام القرار الأول والأخير بيدهم، فستظل الديمقراطية صورية ومهددة في أي وقت بالتغييب الجزئي أو الكامل، رغم ما قد يتولد عن ذلك من رفض واسع، يستحيل معه الإلغاء التام، مع الاحتفاظ بصور مشوهة من الديمقراطية، تكرس الإرادة العسكرية وتصادر بوجه كبير الإرادة الحرة للمواطن الموريتاني المحاصر بحق.
وستظل هذه التغييرات في المقابل، ولو أقرت، مُهددة بالإلغاء، وهذا ما يُراهن عليه البعض على نطاق واسع، على نمط أحاديث خاصة يفضل الناس البوح بها بعيدًا عن الرقيب، لأن هذه التغييرات الدستورية فُرضت في جو بعيد من الإجماع، كما أقرت عمومًا في ظرف غير مستقر، مما قد يقودها فعلا، يومًا ما، للإلغاء على يد برلمان آخر أو استفتاء شعبي في وقت لاحق، لأنها باختصار بمثابة اغتصاب وعنف وإكراه.
وتلك أفعال كلما أُتيحَ للشعوب، التعبير عن رفضها وكبحِ جماحها، سارعت إلى ذلك في الوقت المناسب بإذن الله.
الرؤساء السابقون، بسبب بعض الحنكة والتريث الحكيم، لم يسعوا إلى مثل هذه الحماقات الدستورية، بينما لم يستحى الحاكم الحالي من تغيير دستوري كبير، من غير أساس مكين مقنع طبيعي.
ورغم ما سعى إليه من الانقلاب والتزوير الانتخابي والتحايل الواسع على المال العمومي لصالحه شخصيًا ولصالح بعض المقربين منه، إلا أن هذا التعديل الدستور غير التشاوري، والذي أقر جزئيًا حتى الآن، من غير استفتاء شعبي، سيكون من أشنع ما أقدم عليه هذا المتغلب الحالي، على رأي كثيرين حسب تصوري الخاص.
لأنه مس من رموز وطنية دستورية تهم الجميع وألفتها أجيال مُتعاقبة منذ بزوغ شمس الاستقلال وإلى اليوم.
لقد تعمد عزيز هذا التعديل الدستوري المثير، ربما للقول، بأنه كان قادرًا وقت هيمنته وسيطرته على فعل ما يُريد بموريتانيا، حتى دستورها لعب به وترك فيه الأثر، ولو أراد غير ذلك لفعل.
إنها باختصار رسالة احتقار وإهانة للجميع، عبر هذا التعديل الدستوري غير التوافقي والذي من المقرر عندهم أن يُمرر دون استفتاء شعبي.
وإذا كان بعض نواب الجمعية الوطنية، ضمن ما سمي وقتها بالكتيبة البرلمانية، قد انساقوا وراء توجهات الانقلابيين سنة 2008 ضد الرئيس المدني سيدي ولد الشيخ عبد الله، فها هو التاريخ يُعيد إحياء هذه الكتيبة البرلمانية، ليعطيها الفرصة مجددًا لتأكيد تفريغ المهمة البرلمانية من أبعادها المشرفة والاكتفاء بالتعبير الكامل عنى الولاء العميق للمتغلب العسكري الحالي على حساب الشعب وما يُمليه الضمير الحي، أم أن بعض الضمائر في هذا المنكب البرزخي وتحت وطأة الحسابات الأنانية قد أضحت ميتة تقريبًا، وذلك حين وافقت على الرضوخ لتوجهات "المخزن الانقلابي" دون العودة لمن انتخَبَهم، ولمن تعود إليه في الأخير علامة التقويم الأخلاقي والمعنوي، إن كانت تهمهم في الأصل.