التعديلات الدستورية الموريتانية.. والجسر المؤدي إلى المجهول..! / أحمد ولد الحافظ

من اللافت جدا أن ينشغل الطيف السياسي الموريتاني اليوم بتعديلات "شكلية" –في غالبيتها- على دستور تمّ الانقلاب عليه وتجاوزه إحدى عشرة مرة خلال ثلاثين عاما فقط؛ حيث شهدت موريتانيا ما بين يونيو 1978 وأغسطس 2008 أحد عشر انقلابا (ما بين أبيض وأحمر) نجح منها ستة، وكان المجتمع

 "المدني" –في عمومه- مناصرا لتك الانقلابات (بما فيها الانقلابات الدموية والفاشلة) بل إن الأكثر غرابة أن بعض أبرز قادة "المعارضة" اليوم (والذين يشكلون قطبا مهما في ذلك النقاش؛ متذرعين بقدسية الدستور) قاموا بانقلابات على الدستور، أو شاركوا فيها..!!!
ربما لا تكون تلك الأمور وحدها المثيرة للتعجب؛ إذ ثمة أمور أخرى تدعوك إلى التساؤل والاستفسار؛ ثمة أسئلة كثيرة يثريها ذلك المشهد الذي يبدو اليوم –أكثر من أي وقت مضى- غائما ومُخادعاً، ومفتوحا على المجهول:
لماذا كل هذا اللغط والحشد حول تعديلات لا نبالغ إذا وصفناها بالشكلية على دستور لم يكن في يوم من الأيام محل "تقديس" ولا حتى "احترام"؟ لماذا يغضب الرئيس الأسبق اعل ولد محمد فال من إضافة خطين أحمرين إلى لون العلم؛ بحجة عدم شرعية الحوار؛ وهو نفسه من ألقى البيان رقم 1 يوم 3 أغسطس 2005 معلنا "تعطيل" ذات الدستور؟ ما الذي يبرر به أنصار حزب تكتل القوى الديمقراطية ثورتهم على تعديلات دستور وصفوا الانقلاب عليه في عهد قريب بـ"التصحيح"؟ ما الذي يُمنطِق انتصار الرئيس صالح ولد حننّ لدستور حمل سلاحه في وجهه أكثر من مرة؟ ما الذي يُقنعنا باحترام "تواصل" لدستور كانوا يوما شركاء "فاعلين" في محاولة الانقلاب عليه؟
وفي الوجه الآخر؛ ما الذي يدفع "الأغلبية"؛ أو على الأصح يدفع الرئيس محمد ولد عبد العزيز لمحاولة إيهامنا باحترامه للدستور وشرعيته، وحرصه على "تحسينه" من منطلق شرعي؛ وهو الذي اعترف؛ بل وافتخر بأنه انقلب عليه مرتين؟ ما الذي يستفيده الرئيس –وهو يترك السلطة- أو نستفيده نحن من تغيير ألوان العلم، أو بحر النشيد الوطني؟
المعارضة والخطاب المفلس
لقد استطاع الرئيس محمد ولد عبد العزيز -وفي بدايات دخوله "المعلن" للمعترك السياسي- سحب الخطاب "الشعبوي" من المعارضة التقليدية؛ ليضع منه شعارات خطابه السياسي؛ مستغلا تلك المفردات التي طالما مثّلت كل "مشاريع" المعارضة؛ حيث أصبح "رئيسا للفقراء" و"محاربا للفساد" و"رئيسا للعمل الإسلامي".. وغير ذلك من الشعارات التي تمكّن عبرها من جلب عواطف العامة؛ الأمر الذي أصاب الخطاب المعارض التقليدي بشبه إفلاس؛ تجلى في العديد من المشاهد؛ ربما من أوضحها فوز الرئيس في الانتخابات الأولى التي شارك فيها كافة الطيف المعارض، وفي شوطها الأول؛ إضافة إلى عجزهم –رغم المحاولات الجادة- عن إقناع الشباب باستنساخ ظاهرة "الربيع العربي"، كما استطاع الرئيس بذلك "الخطاب" أن يقنع شريحة كبيرة من الشعب بالتصويت لأغلبيته في الانتخابات البلدية والنيابية الأخيرة (وإن كان قاطعها بعض أحزاب المعارضة) مما ضمن له أغلبية برلمانية تتجاوز الثلثين.
لقد أدى هذا الواقع إلى خلق سيكولوجية سياسية جديدة؛ حيث أصبح الرئيس واثقا في شرعيته "الشعبية" وأصبحت المعارضة، لا تملك أملا في الوسائل التقليدية، عاجزة عن خلق فضاء آخر ذي جدوائية؛ ومن هنا التقت المصالح؛ وإن بشكل غير "معلن" وربما غير "منسّق" ليتخذ كل من الطرفين من هذه التعديلات شماعة يسعى من ورائها لأهدافه "السياسية".. إذ من الصعب أن نفهم –في إطار المعلن- دوافع الرئيس من وراء هذه التعديلات؛ كما أننا لا نستطيع استيعاب وقوف المعارضة –بكل هذه الحدة- في وجه تعديلات دستورية "شكلية" تأخذ منحى دستوريا واضحا؟!
وراء الأكمة شيءٌ آخر..

إذا كان حوار 2011 مفهوما في سياقاته، وبعض مخرجاته؛ حيث مثل جزءا من الرسالة التطمينية التي يريد الرئيس إيصالها إلى الشركاء الدوليين؛ والذين ربما كان لا يزال –يومها- يتوجّس خيفة من نظرتهم إليه كانقلابي؛ وذلك من خلال تسويقه لرغبته في تعزيز المؤسسية الديمقراطية، وإشراك الفرقاء السياسيين؛ إضافة إلى "تأمين" نفسه ومأموريتيه القادمتيْن؛ عبر نقطة "تجريم" الانقلابات التي كانت من أهم نقاط ذلك الحوار (وهي نقطة تشرح بدورها أن الدستور لا يعني للسياسيين ولا العسكريين شيئا؛ وإلا لما كانت تلك النقطة وردت في أي حوار؛ إذ يجرم الدستور نفسه كل الانقلابات)!
إذا كان الأمر كذلك بالنسبة لحوار 2011 فإن حوار 2016 يختلف في سياقاته وفي ظروفه؛ فالرئيس يقف على مشارف نهاية مأموريته الأخيرة (بحكم الدستور، وبإرادته هو كما عبر عن ذلك) والمحيط الجيوسياسي محيط مضطرب، واللحمة المجتمعية والسياسية الداخلية هشة، والاقتصاد الوطني بكل تجلياته وحيثياته يقف على حافة الإفلاس.. هذه الأمور تجعل حرص الرئيس على حوار "شامل" من أجل "تعديلات" دستورية "شكلية" أمرا محيرا..!
وحين نتجاوز إلى "التعديلات" المقترحة، والنقاط التي شكلت بؤرة التوتر والنقاش فيها نتبين أكثر أن الأكمة وراءها شيء آخر؛ فلون العلم الوطني وكلمات النشيد وإلغاء مجلس الشيوخ (الملغي أصلا بقوة القانون) و"استحداث" مجالس جهوية (والتي وجدتْ قبل الدستور نفسه)  لا أعتقد أنها أمور يمكن أن تُشكّل هدفا للرئيس، ولا أن تُشكّل –كذلك- هاجسا للمعارضة.
حاول الرئيس في البداية –عبر فرضه لانتخاب الرئيس السابق سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله- استنساخ طريقة الجنرالات الجزائرية في الحكم من وراء الحجاب؛ مما يضمن التمتع بميزات الرئيس، والابتعاد عن الألسن، وعدم الخضوع لاعتبارات الزمن؛ وهو الأمر الذي ربما يشرح قبوله 2006 إضافة المادة المتعلقة بمحدودية المأموريتين إلى الدستور، وحرصه –كذلك- على أن يكون أول إجراء للرئيس ولد الشيخ عبد الله هو ترقيته إلى رتبة جنرال (في خطوة هزّت كل مصداقية وتقاليد المؤسسة العسكرية الموريتانية) من أجل تمديد فترة خدمته العسكرية؛ مما يشي بأن الرجل يريد أن يبقى في الساحة لأطول زمن ممكن، وحين انقلب على الرئيس قرر تغيير استيراتيجيته؛ بأن يحكم بذاته وأطول –دون  شك- فترة ممكنة؛ لذلك كان متوقعا –من أجل تلك السيكولوجية- تعديل الدستور؛ لكن ليس في إطار المتعلق بالنشيد، ولا العلم، ولا المجالس المحلية، وهذا الهاجس هو الذي كان لدى المعارضة، وكانت تُعوّل عليه في "التثوير" واستعادة "شعبويتها" المسلوبة؛ بل وربما كان –أيضا- هاجسا أو احتمالا لدى كل المتابعين للشأن السياسي الموريتاني..!
تفكيك البناء المجتمعي والسياسي
أُطلق -في ظل حكم الرئيس محمد ولد عبد العزيز- العنان لكل النزعات الشرائحية والفئوية والدينية، وبشكل مُمنهج، وبوتيرة متسارعة ولافتة؛ في استهداف واضح للبنائيْن السياسي والمجتمعي، وقد استطاع النظام من خلال تلك الأمور "إقناع" المراقب الخارجي بمستوى كبير من الحريات يُوفره؛ كما استطاع –في ذات الوقت- أن يضرب "هيبة" و"قدسية" كل الثوابت الوطنية؛ فأصبح الكلام -في التظاهرات السياسية العامة- عن خيار النظام الفيدرالي (والذي يعني في صلبه الدعوة إلى الانفصال؛ خصوصا أن المنادين به يملكون تاريخا انفصاليا طويلا) خطابا مألوفا، وأصبحت الدعوة إلى "شَرْحَنَةِ" (من الشرائح) كل مناصب الدولة العليا -على غرار "المحاصصة الطائفية" في بعض البلدان العربية- أصبحت تلك الدعوة فكرا سياسيا رائجا؛ لا يستحي منه أصحابه ولا يخجلون.. رُفعت أعلام "داعش" على بعض مؤسسات الدولة ومر الحدث عابرا.. تم تقسيم المجتمع برعاية من أذرع الدولة الأمنية والمخابراتية إلى "متطرفين" و"ملحدين"..!
ولم يقتصر تدنيس "المقدسات" على ذلك؛ إذ ورد اسم رئيس الدولة (رمز الهيبة) وعدد من محيطه القريب في الكثير من الملفات المشبوهة (والمشبوهة جدا)؛ بل إن الرئيس نفسه اعترف مرة بصحة بعض التسجيلات التي تتهمه الصحافة من خلالها بالصلة بأشياء تتعلق بتبييض الأموال والمخدرات (وإن فسر الرئيس تلك التسجيلات في سياقات أخرى).. أما المُتاجرة بالمنصب والتربح والتكسب عبره؛ فحدث ولاحرج..! أمور ألقت بظلالها على مفهوم "القدسية الوطنية" إن لم تكن رمت عرض الحائط بآخر بقايا ما كان يطلق عليه "المقدس الوطني"..!
إذا نظرنا إلى تلك الأمور من زوايا موضوعية؛  فإننا لن نرى هذه التعديلات –في حقيقتها- سوى حلقة جديدة ومركزة من حلقات تفكيك البنية المجتمعية؛ وقد تم التمهيد لذلك؛ عبر حلقات من النقاش والصور "الحملاتية".. إذ تدّعي  المادة المتعلقة بتغيير العلم الوطني حفظ الإرث "الجهادي" الموريتاني، أو تخليد المقاومة الوطنية؛ في اتهام صريح لجيل التأسيس بتجاهلها؛ بل إن ذلك النقاش "التاريخي" الذي هيأ لتلك الأمور تحوّل إلى نقاش "جغرافي" رسّخ وكرّس التفسير "الجهوي" لقضية "الاستعمار" و"المقاومة" و"الاستقلال"؛ حيث يعتبر كل المناوئين للتعديل من جهة "معينة" وبالمقابل كل المناصرين من جهة أو جهات "ثانية"؛ أو بمعنى آخر؛ يتمّ توزيع موريتانيا اليوم "جهويا" باعتبار "المقاومة" و"العمالة"..!!!
حتى تعديل "النشيد الوطني" ليس غير جزء من سلسلة تلك "الفلسفة"؛ إذ يتجاوز النقاشُ -حول مقترح تعديله- "كلماتِه" ودلالاتها إلى "قائله" و"موقفه السياسي"، ولا تختلف المادة المتعلقة بـ"المجالس المحلية" في عمومها عن ذلك؛ إذ تُشرعن الجهوية والقبلية (الشرعيتين أصلا)!!!
بعدي الطوفان
ليستْ هذه التعديلات –بالمطلق- هدفا للرئيس، ولا يمكن أن تكون كذلك؛ وإنما هي وسيلة إلى هدف آخر أكبر و"أسمى" الأمر الوحيد الذي ربما يشرحه، أو يقربه منا هو ما قاله الرئيس محمد ولد عبد العزيز في مقابلته مع قناة الجزيرة –بُعيد انقلابه مباشرة- مبررا إقدامه على الانقلاب؛ حيث قال إن الرئيس السابق سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله قام بخطوة كان من شأنها أن تجر موريتانيا إلى حرب أهلية (ولم تكن هذه الخطوة غير إقالة رئيس لضابط وتعيين آخر مكانه!) مما يعني أن الرجل يرى عزله من منصبه شُروعا في "حرب أهلية" وتبريرا لها؛ أي بمعنى آخر: من أجل استقرار موريتانيا وسلميتها ينبغي أن أظل "أنا" في مكاني.. كان يرى ذلك وهو لا يزال –في الظاهر على الأقل- ضابطا في الجيش الموريتاني، وتبجّح به –في المقابلة- وهو انقلابي، لا يملك أية شرعية؛ فكيف نتوقع أن يتغير رأيه، وهو رئيس للدولة، ومنتخب من غالبية الشعب الموريتاني؟!
إن الرئيس محمد ولد عبد العزيز يرى منصبه أهم من "سِلْمِ" الدولة؛ بل ومن الدولة نفسها؛ لذلك لا نستغرب كل ما قام به من تفكيك وهدم لـ"المقدس الوطني"؛ أو لعل محلّ الاستغراب الذي يعزّزه المنطق؛ هو أن تكون تلك "التعديلات الدستورية" هدفا في ذاتها لديه.. أو خاتمة لمشواره "السياسي"..!
تخدم المعارضة المناوئة لتلك التعديلات –دون قصد بالضرورة- ذلك الجسر المؤدي إلى المجهول؛ الذي بات قاب قوسين أو أدنى من الاكتمال؛ فـ"التأزيم" في ظل ظروف كهذه منذر بالخطر؛ بل لا يُستبعد أن يكون أحد أهم وأسرع "السيناريوهات" المرسومة للوصول إلى الهدف "الحقيقي" المنشود؛ وليس حياكة "القماش" ولا نسج "الشعر"!
يضاف إلى ذلك؛ أن تصوير تغيير لون العلم، أو إضافة بيت من الشعر إلى النشيد الوطني؛ تصوير ذينك الأمرين باعتبارهما كارثة، أو سابقة وطنية؛ ليس إلا كذبا على التاريخ، وتجاوزا للواقع، وتجسيدا للبعد "الجهوي" الذي أصبح مرافقا لنقاش تينك "القضيتين"؛ وبالتالي مساهمة فعالة في ذلك "المشروع" الذي لا نعرف عنه إلا أن "صحابه" أولى وأهم من "الوطن"..!

15. مارس 2017 - 7:30

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا