أشبع، بل وأُتخم موضوع التعديل المقترح على العلم الوطني نقاشا في كل الساحات والقنوات المرئية والمسموعة والمكتوبة الواقعية والافتراضية، كل من زاويته ما بين مدافع عن التعديل ومسوغاته، وساخر من تلك المسوغات بمسوغات أخرى، لكن كلما ابتدع رافضو هذا التعديل حجة لتسويق رفضهم،
كلما تطلب ذلك منا مناقشة تلك الحجة بما لدينا من معطيات.
آخر هذه الحجج أو الدعاية المتداولة خلال الأيام الأخيرة هي أن العلم الوطني جامع للموريتانيين، دون أن يبينوا لنا طبيعة ذلك الإجماع، وأن التعديل الذي سيجري عليه عامل فرقة للموريتانيين دون أن يبينوا لنا أيضا كيف، ولكن التعديل المقترح على العلم، كما هو معروف، هو إغناؤه بلون أحمر لمغزى وحيد معلن ومعروف مع الإبقاء على ما كان يوحد الموريتانيين فيه حسب هؤلاء، وكان هذا التعديل سيكون مفرقا للموريتانيين لو كان ما يرمز إليه يخص جهة من جهات، أو لونا من ألوان، أو فئة من فئات المجتمع الموريتاني، لكن لا شيء من ذلك في التعديل المقترح على العلم الذي يرمز، كما نرى وكما سنبينه، إلى مشترك بين كل جهات وأعراق وألون الشعب الموريتاني.
فعندما نتحدث عن مقاومة المستعمر التي سنظل نتحدث عنها بغض النظر عن حساسيتها التي لا نفهم أسبابها، وبغض النظر كذلك عن كونها مقاومة وطنية أو جهادا في سبيل الله، مادامت تلك المقاومة أو الجهاد حدث على هذه الأرض التي ستصبح فيما بعد أرض الجمهورية الإسلامية الموريتانية، وما دام من خاضوها كانوا يدافعون عن عقيدة وأرض وعرض وثقافة وشرف.. وهي كلها قيم ينطبق عليها مصطلح المقاومة والجهاد ما دامت الغاية والنتيجة واحدة، فإن هذا الفعل والجهد شاركت فيه كل فئات وأعراق الشعب الموريتاني كل على طريقته وحسب ظروفه.
والغريب أن الأمم والشعوب التي لا تمتلك رصيد مقاومة أو أمجاد تاريخية تنسج قصصا وحكايات حول التضحية والأمجاد تربي عليها النشء والأجيال، بل أن بعض تلك الشعوب فقدت جنودا في حروب ولم تتمكن من تحديد هوياتهم لتنشأ من هنا فكرة إقامة النصب التذكارية لما يعرف بالجندي المجهول تخليدا لألئك الجنود، ولتصبح نُصبهم مزارا للأجيال التي ولدت بعد ذلك بعقود، لكي لا تعتقد أن بلدانها نشأت كما هي عليه الآن أولم يكن هناك من ضحى أو مات في سبيل ذلك.. أما نحن وما عندنا من تلك الأمجاد مما هو مشهود وموثق وصالح للبناء عليه وتخليده وإشاعته وتدريسه، فيفضل بعضنا اعتباره " عورة " يجب سترها أو معرة ووصمة عار في تاريخنا ينبغي إسقاطها من الذاكرة والتاريخ، فيا عجبا!
كان ذلك عن المقاومة أو لنقل الجهاد في سبيل الله، إذ لا فرق شعوريا عندنا في ذلك.. وحتى إذا كان الأمر يقتضي تجنب الحديث عن المقاومة نزولا عند رغبة من يريدون ذلك فلا مشكلة.. نحن مستعدون للاقتصار على الحديث عن ما بعد المقاومة من تضحيات وهو كثير وأكثر من كاف لاعتباره أمجادا وتضحيات شارك فيها جميع الموريتانيين، ونقول إن من استشهدوا في حرب الصحراء كانوا أيضا من كل جهات وأعراق وفئات الشعب الموريتاني، ولم يكونوا أيضا مدافعين عن جهة ولا عرق ولا طائفة، وإنما عن حوزة وسيادة واستقلال بلد جامع اسمه موريتانيا، ومثلهم من استشهدوا بعد ذلك غدرا على أيدي الجماعات المسلحة التي لم تغدرهم بصفتهم تجارا أو منمين وإنما بصفتهم جنودا لبلد اسمه موريتانيا يحاربونه، وهؤلاء أيضا كانوا من جميع جهات وأعراق وفئات الشعب الموريتاني، كما كان من استشهدوا في الميدان في غابات " وقدو " إبعادا لهذه الجماعات عن الحدود، وهنا في قلب العاصمة في معارك معهم، وعلى تخومها لإبطال هجوم كان سيسوي ثلث المدينة بالأرض كلهم من جميع جهات وأعراق وفئات الشعب الموريتاني، ودفاعا عن هذا الشعب وسلامته ومكتسباته لا عن جهة أو قبيلة أو فئة أو عرق..
وما الجنود المرابطون اليوم على الحدود في درجات حرارة تلامس الخمسين صيفا والصفر شتاء إلا أبناء لموريتانيا ومن جميع جهات وأعراق وفئات شعبها، وهم هناك تأهبا لبذل دمائهم دفاعا عنها وعن سيادتها وحوزتها، لا عن جهة ولا فئة ولا عرق كذلك..دون أن ننسى أولئك المغتربين اليوم في ساحات إفريقية ساخنة مساهمة في حفظ السلام بتلك الساحات وباسم موريتانيا، وهم كذلك من جميع جهات وفئات وأعراق الشعب الموريتاني. فأي صورة جامعة أبلغ وأروع من هذه الصورة، وماذا سيكون شعور ومشاعر الأحياء من هؤلاء، وأبناء وأحفاد من قضوا من أولئك عندما يسمعون من بعض أبناء وطنهم أن تخليد دمائهم وتضحياتهم على علم وطني هو تشويه له؟! أم أن القضية قضيتهم وحدهم فليشعروا أو لا يشعروا وهم الذين تقتضى عظمة دورهم ونبل رسالتهم أن يبقوا دوما بمعنويات مرتفعة وشعور وطني عال مسندين ظهورهم في شعب يقدرهم ويقف خلفهم؟ لا حول ولا قوة إلا بالله!
يقولون لك أفلا يمكن تخليد وتمجيد المقاومة بطرق أخرى غير تعديل العلم؟ فنقول وأي رمز أنسب لتخليد وتمجيد وتجسيد تلك التضحيات من العلم الوطني الذي يرفرف على كل المصالح الإدارية والعسكرية والسيادية، وفي ساحات المدارس وعلى مباني البعثات الدبلوماسية في الخارج، وهو الذي لا تبدأ فعاليات الاحتفال بأكبر يوم وطني قبل رفعه وأبصار الجميع شاخصة فيه وأجسادهم تحبس الأنفاس إلى أن يستوي على عليائه؟ لم يكن تجسيد تلك التضحيات في العلم الوطني إلا حلقة في مسلسل، أو جوهرة في عقد خطوات تمجيد وتخليد بطولات المقاومة، فقد سبقه الأهم وهو رفع الحظر عن الحديث عنها في وسائل الإعلام كخطوة للتعريف بها، إذ لا يمكننا تمجيد أو تخليد ما هو محظور.. ثم تبع ذلك تكريم الأحياء من رموزها، وأصبح استحضار تضحياتهم فقرة لازمة من خطابات يوم الاستقلال، ثم تخليد وقائعها في أسماء لمنشآت، ثم تم الوقوف على ساحات معاركها وأضرحة شهدائها. هذا من الناحية الرمزية والمعنوية، أما من الناحية المادية فهناك قرارات وإجراءات جارية لإنشاء صندوق لدعم أبناء شهداء اليوم والأمس، باعتبار المقاومة فعلا مستمرا لا يتوقف باستقلال بلد، وإنما يتواصل حماية وتعزيزا لذلك الاستقلال..
ثم نتساءل، هل أخذ في الاعتبار إجماع الموريتانيين على العلم عندما دُبر أمره في غربة خارج الأرض المعد كعلم لها، وأي الظرفين المواطنون خلاله أكثر وعيا واهتماما بمثل هذه الأمور وأكثر تغييبا عنها وأحق بالإشراك في مناقشتها، في ذلك التاريخ و99% منهم رحل ولا إذاعة ولا تلفزيون ولا صحف تتحدث لهم عن ذلك العلم على الأقل أو تأخذ رأيهم فيه، أم الآن وأغلبيتهم في المدن ووسائل الاتصال متوفرة ومتاحة أمامهم للتعبير عن مواقفهم من هذا التعديل المقترح، والحديث عنه يجري على أرضهم وبين ظهرانيهم؟!
ما يشفع لهذا التعديل المقترح على العلم الوطني هو أنه يخص حماية البلاد والدفاع عنها وعن قيمها ومكتسباتها وهو جانب مناطه القوات المسلحة، ومعروف تعلق الموريتانيين بجيشهم وقواتهم المسلحة، وذلك ما يظهره لنا تدفقهم العفوي بمئات الآلاف ومن كل الأعمار والفئات دون تعبئة ولا محفزات كلما نظمت القوات المسلحة عرضا عسكريا، وبقاؤهم لساعات طويلة تحت أشعة الشمس اعتزازا واستمتاعا بعروض فرقه وكتائبه وسط كل أوجه التشجيع والزغاريد.. وهو ما أراه كفيلا بمواجهة ذاتية للحملة السياسية المقام بها ضد تعديله وإغنائه بهذه الروح..