سقوط التعديلات الدستورية، زلزال سياسي، انتكاسة، ضربة موجعة للنظام، بداية النهاية، تصدع خطير في الأغلبية الحاكمة.. هكذا تعامل إعلامنا وساستنا مع تصويت 33 شيخا ضد التعديلات الدستورية مقابل 20 شيخا صوتوا للتعديلات، في ظل غياب إلمام من كل هؤلاء فيما يبدوا بالخيارات
الباقية مفتوحة أمام السلطة التنفيذية لتمرير هذه التعديلات، بل وذهب البعض أبعد من ذلك وقال أن لا تفسيرا قانونيا لعدم تصويت الشيوخ بالأغلبية على التعديلات إلا الاستقالة الفورية والتلقائية للرئيس كما فعل " ديكول "، في سياقات سياسية ودولية غابرة حدثت ونحن حينها بلا دستور ينظم حياتنا السياسية ويحدد متى وكيف تتحتم، طبقا للدستور، استقالة الرئيس!
لم يسقط الشيوخ هذه التعديلات، باعتبار كل أمر يمكن تحقيقه بعدة خيارات لا يسقط أو يستحيل تنفيذه بتعذر إحداها، كما أن رفض أعضاء من مجلس الشيوخ لهذا المشروع كان متوقعا، أو على الأقل كان تذمر الشيوخ من احتواء مشروع التعديل على بند بإلغاء غرفتهم علنيا وسبق صياغة التعديلات بل وحتى تنظيم الحوار الذي انبثقت عنه هذه التعديلات، حيث بدأ حراكهم ضد حل غرفتهم بمجرد إعلانه من طرف رئيس الجمهورية في مدينة النعمة، هذا لكي نذكر المهنئين اليوم للشيوخ المرتفعين بهم من رتبة " المرتشين "، " أصحاب الموائد "، " فاقدي الشرعية "، " الخائنين "، " البائعين لمواقفهم ".. إلى مرتبة الشجعان والأبطال المنتصرين لإرادة الشعب!
نعم، أعلن بعض من أعضاء مجلس الشيوخ عن تذمرهم من الحديث عن إلغاء غرفتهم، وكان تذمرهم سابقا، وبفترة طويلة، لكل ما تمت صياغته في نتائج الحوار من تعديلات، مما يعني وبما لا يضع مجالا للشك أن موقفهم من التعديلات تم اتخاذه في الوقت الذي لم يكن معروفا بعد من تلك التعديلات سوى إلغاء غرفة مجلس الشيوخ، وما يؤكد ذلك هو تحاشي شيوخ الأغلبية منهم للحديث بتفصيل عما يعارضه أو يوافق عليه من هذه التعديلات خلال جلسة نقاش مشروع التعديلات، مما يؤكد ما كان متوقعا ومتفهما من أن سبب اعتراضهم هو حرصهم على بقاء غرفتهم عكس ما يريد البعض تسويقه على أنه " صحوة " من الشيوخ المعترضين وقناعة منهم بموقف المعارضة من هذه التعديلات.
لقد أخطأ الكثيرون في حديثهم في هذا الموضوع بخلطهم بين الشيوخ كأشخاص وغرفة مجلس الشيوخ كهيئة تشريعية، وأصبح كل ما يثار حول دور هذه الغرفة وإمكانية الاستغناء عنها يفهم منه وكأنه هجوم أو استهداف للشيوخ كأشخاص، فلا أحد عنى بحديثه عن مكانة أو دور هذه الغرفة الشيوخ كمواطنين لعبوا أدوارا سياسية وإدارية واجتماعية تحفظ لهم مكانتهم في الدولة والمجتمع، وسيبقون محتفظين بها سواء بقوا شيوخا أو حُلت غرفتهم وانخرطوا في أدوار أخرى ضمن النظام والتوجه السياسي الذي ينتمون إليه، أو جلسوا في بيوتهم وتفرغوا لشؤونهم. وعلى أية حال فإذا كان هناك من اتهام أو مس من الشيوخ كأشخاص فإنه أتى من قبل المعارضة مما لا شك أنه وصل الشيوخ وسمعوه، ولسنا متأكدين ما إذا كانت التهاني والتمجيد والتبريكات الصادرة اليوم كفيلة بتضميد جراحه ورأب صدعه..
ما قصده الرئيس والوزراء في الحديث عن هذه الغرفة هو نفسه ما كان يطرحه الكثيرون، حتى في المعارضة، من ضرورة إلغاء هذه الغرفة لا إلغاء أعضائها، ولمسوغات سياسية واقتصادية معلومة ووجيهة لا يختلف عليها اثنان. هذا من الناحية السياسية والاقتصادية، أما من الناحية الإجرائية فهناك ما يمكننا نحن الحديث عنه فيما يخص غرفة الشيوخ مما قد لا تسمح للرئيس والوزراء مكانتهم بالحديث عنه والتفصيل فيه ـ بغض النظر عن الأعباء المادية لهذه الغرفة مع قيامها بنفس الدور الذي تقوم به الغرفة الأخرى، وبغض النظر كذلك عن الوقت المهدور في تداول ونقاش القوانين بين الغرفتين ـ هو الطريقة " المقززة " سياسيا وأخلاقيا التي يتم بها انتخاب أعضائها والتي لخصها عضو سابق في مجلس الشيوخ بطريقة لن يتوصل أحد بعده لوصف أدق منه.
فقد ترشح هذا الشيخ بإحدى مقاطعات البلاد، و" نسق " مع المستشارين البلديين الذين كانوا 17 رجلا وامرأة واحدة، مما مكنه من الحصول على كل أصواتهم وبالتالي فوزه شيخا للمقاطعة، فأراد المستشارون بعد ذلك ابتزازه ومطالبته ب " المزيد " مذكرينه بأنهم هم من أوصله لمنصبه، فجمعهم وقال لهم لا تمنوا على، فليس لكم على أي فضل ولم تعودوا تطالبوني بشيء، فقد أتيت ل " المربط " واشتريت 17 عشر كبشا وعنزا واحدة.. مع فارق وحيد هو أن ثمن الكباش لا يزيد عن ثلاثين أو أربعين ألف أوقية أما أنتم فبالملايين!!
هذا ناهيك عن أجواء التوتر المحلي والإرباك الذين تسببهما عملية الانتخاب بهذه الطريقة، حيث تصاحبها دائما عمليات اختطاف للمستشارين، وأخذهم كرهائن طيلة الحملة الانتخابية خوفا من أن يسطوا عليهم مرشح آخر، بالإضافة إلى إفراغ العملية برمتها من أدنى المسلكيات المقبولة ديمقراطيا، وترشح المستشارين البلديين لا بهدف خدمة دوائرهم وإنما لوضع أصواتهم في المزاد بهذه السوق الموسمية!
مغالطة كبيرة كذلك، وقفز على الحقيقة والواقع من طرف من تعودوا القفز عليهما بالقول إن تصويت 33 شيخا من أعضاء مجلس الشيوخ ضد التعديلات الدستورية هو تعبير عن إرادة الشعب وقول فصل للكلمة نيابة عنه، فأولا الشعب لم يُطلب منه بعد قول كلمته في هذه التعديلات بشكل مباشر، وثانيا إذا كان تصويت 121 نائبا في الجمعية الوطنية على هذه التعديلات، وهم الأكثر عددا وتمثيلا بصفتهم منتخبين من طرف الشعب بالاقتراح المباشر ليس تعبيرا عن إرادة الشعب، فالمنطق يقول إن تصويت 33 شيخا منتخبين بالطريقة التي نعرفها ليس تعبيرا عن إرادة الشعب لو كنا نحتكم للمنطق!
لست ممن يراهنون في ذاك الطرف، أو يتوجسون في هذا الطرف من أن رئيس الجمهورية يهتز أو يرتبك لمثل هذه الرجات، بالنظر لمحطات وملفات سابقة أدارها بإرادته القوية، وبالشكل الذي أراده لها وكلها كانت في مصلحة البلد داخليا وخارجيا، ونظرا كذلك للجسور التي مدها، وقنوات الاتصال التي فتحها، والعلاقات المباشرة التي نسجها مع أطياف كبيرة من الشعب الموريتاني تجاوزا منه لأنماط علاقات الحاكم بالشعب التي ظلت ولعقود علاقات فوقية تُدار بأساليب النيابة أو" المناولة بالباطن "، مما مكنه في مرات عديدة من الاستئناس في قراراته بنبض الشعب، والقدرة على استخدام تلك الجسور والقنوات والعلاقات في الاطلاع شخصيا، ودون وسطاء، على جس ردود الفعل الشعبية على أي تصرف أو قرار يتخذه، أو استخدامها في التواصل والإقناع.. وما يميز هذه التعديلات عن تلك المحطات والملفات السابقة هو أنها معززة بشراكة مع طيف سياسي كبير أغلبية ومعارضة، ومن السطحية الاعتقاد بأن الإرادات القوية المعززة بالشراكة السياسية الواسعة يمكن أن تضعف أو ترضخ أو تعثر بحجر من هذا الحجم، إلا إذا كان شركاؤها ليسوا على نفس المستوى من القناعة والاهتمام بها..
ولذلك فالتعديلات لم تسقط ما دامت الخيارات التي يكفلها الدستور لتمريرها متعددة ولم تنفد بعد، إنما يتوقف الأمر على جدية ومسؤولية شركاء العملية باعتبارها قضيتهم ومطالبون بإيصالها إلى غاياتها، فقد يكون الشيوخ أرادوا البرهنة على أنهم قادرون على عرقلة هذه التعديلات، لكنهم مستعدون للمصادقة عليها من جديد في مؤتمر برلماني إذ لا خيارات أخرى متاحة أمامهم، وقد يكون قرارهم لا رجعة فيه لأسباب أخرى من بينها الخلافات الداخلية مع حزبهم، وحفظا لماء وجوههم أمام سيل الشتائم والإهانات من طرف معارضي التعديلات حتى قبل أن يصوتوا ضد التعديلات..
لكن وكما قلنا سابقا فلا علم لنا بأي بند في هذه التعديلات سيعرض على الشعب فيرفضه، بما في ذلك تعديل العلم الذي لا يحتاج إلا لمن يبلغ المغزى الذي من أجله تم اقتراح تعديله بطريقة تدحض الدعاية المناوئة لهذا التعديل، وعندما أقول أن لا أحد سيرفض هذه التعديلات فإنني أعني بذلك المواطنين العاديين ممن ليست لهم مواقف سياسية مسبقة من هذه التعديلات وهم الغالبية طبعا سواء في المناطق الداخلية، أو هنا في نواكشوط مهما تمادى المتظاهرون في " تنزال البركة " في أعداد متظاهريهم واختزال كل الموريتانيين فيهم