تناول قانون الالتزامات والعقود الموريتاني أحكام الغلط كعيب من عيوب الرضا ضمن المواد من 59 إلى 76 المتعلقة بعيوب الرضا بصفة عامة.
حيث نص على أحكام الغلط في المادة 59 حتى المادة 65 ، وأحكام الإكراه من المادة 66 إلى المادة 71 ، ومن المادة 72 إلى المادة 76 بسط قواعد وأحكام التدليس والغبن من جهة،
وحالة المرض والحالات الأخرى المشابهة من جهة ثانية .
وما يهمنا في هذه الدراسة هو أحكام الغلط كعيب من عيوب الرضا دون بقية العيوب الأخرى.
فالغلط كعيب من عيوب الرضا يعرف بأنه " وهم يصور للمتعاقد الواقع على غير حقيقته ويدفعه إلى التعاقد نتيجة لهذا التصور الخاطئ "[1] أو هو " حالة تقوم في نفس المتعاقد تحمله على توهم الواقع على خلافه"[2] فالغلط بهذا المعنى هو ذلك الوهم الذي تقع فيه الإرادة بتصورها غير الحقيقة حقيقة ، سواء وقع في القانون أم الواقع.
والغلط بهذا المعنى إذا شاب الإرادة يجعل التصرف قابلا للإبطال لمصلحة من وقع فيه لما ورد في المادة 59 من ق.ل.ع. التي تنص على أنه " يكون قابلا للإبطال الرضا الصادرعن غلط ...." ، ولما ورد في المادة 324 منه من أنه " يكون لدعوى الإبطال محل في الحالات المنصوص عليها في المواد 59 .... " ومن هذه الحالات حالة الغلط كما نصت المادة 59 أعلاه.
وقد أورد قانون الالتزامات والعقود أنواعا عديدة من الغلط جميعها من قبيل الغلط المسبب للإبطال ماعدا حالة واحدة، كما أن للغلط أكثر من نظرية فقهية ، وأساس ما ظهر في هذا المجال هما نظريتان : نظرية تقليدية تقسم الغلط إلى ثلاثة أنواع : قسم يجعل العقد باطلا، وقسم يجعل العقد قابلا للإبطال ،وقسم ثالث لا يؤبه به ولا يؤثر في صحة العقد.
فالقسم الذي يجعل العقد باطلا زمر ثلاث : غلط في ماهية العقد ، وغلط في محله ،وآخر في سببه، فالذي في ماهية العقد مثاله " أن يعطي شخص لآخر نقودا على أنها قرض فيظنها الآخر على سبيل هبة " ،والذي يقع في المحل مثاله " شخص يملك سيارتين من صنفين مختلفين يبيع إحداهما والمشتري يعتقد أنه يشتري الأخرى " , والذي يقع في سبب العقد مثاله " اتفاق الورثة مع الموصى لهم على قسمة العين الشائعة بينهم ثم يتبين أن الوصية باطلة "[3] وهذا القسم من الغلط يعدم الإرادة فلا توجد معه لعدم التطابق بين الإرادة الباطنة والإرادة الظاهرة ولذا سمي بالغلط المانع لمنعه قيام ركن الرضا.
أما القسم الذي يجعل العقد قابلا للإبطال فهو نوعان أساسيان : ماتعلق منه بمادة الشيء[4] وما تعلق بشخصية المتعاقد مادام دافعا إلى صدور الرضا من المتعاقد الآخر.
ثم إضافة لهذين القسمين تقول النظرية التقليدية بقسم ثالث إلا أن هذا الأخير لا يؤثر على قيام الرضا ولا يؤبه به فكأنه منزلة وسطى بين القسمين السابقين ، ومنه الغلط غير الدافع إلى التعاقد المتعلق بمادة الشيء أو بشخص المتعاقد ، والغلط المتعلق بالباعث على التعاقد والمتعلق بقيمة الشيء محل التقاعد سواء كان باعثا أم غير باعث [5] .
وإلى جانب النظرية التقليدية في الغلط قامت نظرية حديثة - تخالف في جوهرها النظرية التقليدية - تأخذ بنمط واحد من الغلط ألا وهو الغلط المعيب للرضا والذي يجعل العقد قابلا للإبطال ، في حين قضت على ما يسمى بالغلط المانع الذي يجعل العقد باطلا وفق النظرية التقليدية باعتبار أن هذا القسم من أنواع الغلط يعدم الإرادة ولا يقتصر على أن يعيبها فحسب وبالتالي يتعين استبعاده من دائرة البحث عن عيوب الرضا[6] كما مزجت بين القسم الثاني الذي يجعل العقد قابلا للإبطال والقسم الثالث الذي لا يؤبه به حسب النظرية التقليدية، معتمدة في ذلك معيارا واحدا يسمى ب " جوهرية الغلط " ولا يهم بعد ذلك في أي حالة وقع، فسواء وقع في الشيء أم في الشخص ، أم في الباعث على التعاقد أم في قيمة الشيء المتعاقد عليه .... فإنه يجعل العقد قابلا للإبطال مادام جوهريا ودافعا إلى التعاقد ...
ويرى كثير من الفقه[7] أن الغلط لا يعتد به إلا إذا كان مشتركا بين أطرافه ولا يكفي فقط أن يكون فرديا، بالإضافة إلى أنه مهما كان جوهريا ومشتركا فلا عبرة به إذا تعارض التمسك به مع ما يقضي به حسن النية في التعاقد .
ونحن في دراستنا لأحكام الغلط - كعيب من عيوب الرضا- وفق قانون الالتزامات والعقود الموريتاني سنعمد إلى تقسيم هذا الموضوع إلى قسمين نتناول في الأول منهما : أنواع الغلط كما وردت في قانون الالتزامات والعقود الموريتاني ،
وفي القسم الثاني : موقف قانون الالتزامات والعقود الموريتاني من نظريتي الغلط والغلط المشترك...
أولا: أنواع الغلط في قانون الالتزامات والعقود الموريتاني.
تناول قانون الالتزامات والعقود الموريتاني أحكام الغلط كعيب من عيوب الرضا في المادة 59إلى المادة 65 ’وفي هذه المواد أورد مجموعة من الحالات تعتبر كلها من قبيل الغلط المسبب للإبطال ماعدا حالة واحدة نصت عليها المادة 63 سنتحدث عنها في حينها .
والغلط المعيب للرضا " يصيب الإرادة ويقع في تكوينها ولا يعدمها كما هو الشأن في الغلط المانع ،وإنما يعيبها ويجعل العقد قابلا للإبطال "[8] ويتعلق بحالتين رئيسيتين :
حالة الغلط في القانون ، وحالة الغلط في الواقع .
و أحكام الغلط في القانون ذكرها قانون الالتزامات والعقود في المادة 60 ، في حين تناول أحكام الغلط في الواقع في المواد :61 ,62 ,63 ,65 .
1- الغلط في القانون .
يقصد بالغلط في القانون " تلك الحالة التي يتعاقد فيها الشخص معتقدا بأن القانون يقضي فيها بحكم معين ثم يتبين له خلاف ذلك "[9]
وقد نصت المادة 60 من قانون الالتزامات والعقود الموريتاني على أن " العقد المبني على جهل عاقده لما له من الحق يجوز فيه الإبطال في الحالتين : 1- إذا كان هو السبب الوحيد أو السبب الأساسي في التعاقد .2- إذا كان مما يعذر فيه بالجهل".
وهذه المادة هي التي تؤطر أحكام الغلط في القانون ، وقد استخدمت مصطلح " الجهل بالحق " ( الغلط المبني على جهل عاقده لما له من الحق ... المادة 60:) ,وهو مقابل لمصطلح " الغلط في القانون " [10] .
وقد يتبادر إلى الذهن أن الأخذ بالغلط في القانون يخالف قاعدة عدم الاعتذار بجهل القانون إلا أن الأمر خلاف ذلك ، بل هناك فرق جلي بين القاعدتين يكمن بالأساس في أن من يعتذر بجهل القانون يدفع به للحيلولة دون تطبيق القانون في حقه كمن يعتذر بجهله بالمادة 67 من القانون الجنائي التي تعاقب على جريمة الخيانة العظمى بالإعدام ، أو كمن يدعي بأنه يجهل احترام الأولوية في قانون السير ...[11] أما من يدعي الوقوع في غلط في القانون فإنه يدفع به من أجل التمسك بصحيح القانون وتطبيقه عليه لا من أجل التهرب منه...
وقد كرست المادة 60 أعلاه حكما عاما يقضي بجواز إبطال التصرف لمصلحة الواقع في غلط في القانون ، مادام هذا الغلط دافعا إلى التعاقد وأمكن العذر منه ...
وسوف تكون معالجتنا لأحكام الغلط في القانون من خلال إعطاء أمثلة عليه ، ثم بيان شروطه.
أ – نماذج للغلط في القانون.
قد يقع الغلط في القانون في قسمة المال ، أ وفي التنازل عن التركة وهي حالاته الغالبة[12] ومثال الغلط الواقع في القسمة اعتقاد أخ مع أخته الشقيقة أنه يرث معها مناصفة ، جهلا منه بقاعدة " للذكر مثل حظ الأنثيين " ، فيحق لهذا الشخص الذي وقع في مثل هذا الغلط القانوني أن يطالب بإبطال القسمة حتى ينال نصيبه كاملا وفق المادة 60 من ق.ل.ع.
ومثال الغلط الواقع في التنازل عن التركة أن تعتقد أرملة المتوفى الذي لم يترك ولدا أنها ترث ثمن المال فتتنازل عن حصتها لهذا السبب جهلا منها بأنها ترث الربع ، بحيث لولا اعتقادها بأنها ترث الثمن لما تنازلت عن حصتها.
وقد يقع الغلط في القانون لا في القسمة ولا في سبب التنازل عن جزء من التركة ولكن في سبب بيع الوارث لحقوقه بعد موت المورث[13] ومثاله " شخص يعتقد أنه يرث دارا صغيرة فيبيعها على أساس أنها نصيبه من التركة ثم يتبين أنه وقع في غلط [14]إذ يرث الدار وحديقة كبيرة بجانبها...، فالبائع لحصته في هذه الحالة ما كان ليبيعها لو كان عالما بأنه يرث الحديقة التي بجانبها مع الدار معا أما ولم يكن عالما بذاك بسبب جهله قواعد الإرث فقد وقع في غلط في القانون.
ب- شروط الغلط في القانون.
نصت المادة 60 من ق.ل.ع على أن " العقد المبني على جهل عاقده لما له من الحق يجوز فيه الإبطال في الحالتين : 1- إذا كان هو السبب الوحيد أو السبب الأساسي في التعاقد 2- إذا كان مما يعذر فيه بالجهل". فقد تضمنت هذه المادة شرطين اثنين للغلط في القانون وهناك شرط ثالث للغلط في القانون لم تنص عليه المادة 60 لكنه يستفاد من الكثير من النصوص المتفرقة الواردة في نفس القانون.
وهذه الشروط هي:
- يشترط للغلط في القانون أن يكون دافعا إلى التعاقد:
تنص المادة 60 على أن " العقد المبني على جهل عاقده لما له من الحق يجوز فيه الإبطال ...1 – إذا كان هو السبب الوحيد أو السبب الأساسي الدافع إلى التعاقد...".
يشترط المشرع في هذه المادة للأخذ بالإبطال لغلط في القانون أن يكون هذا الغلط دافعا إلى التعاقد ،ومعنى ذلك أن يكون لولا الغلط في القانون لما رضي صاحبه إبرام التصرف وبمفهوم المخالفة إذا لم يكن الغلط دافعا إلى التعاقد فلا يعتد به أساسا لإبطال التصرف...، فلا بد أن تكون الزوجة في المثال السابق قد تنازلت عن حصتها الإرثية اعتقادا منها بأنها ترث الثمن ،بحيث لو علمت أنها ترث الربع ما أقدمت على التنازل عن حصتها إطلاقا ، وأن يكون الدافع الذي دفع الوارث على بيع الدار التي ورث هو اعتقاده أنه لا يرث غيرها ، ولو علم أنه يرث الحديقة التي بجانبها لما تنازل أبدا.
فإذا لم يكن الغلط في القانون هو السبب الدافع إلى صدور الرضا وكان سببا ثانويا بأن تشابكت معه أسباب أخرى شكلت في مجموعها سببا رئيسيا فلا يعتد به إطلاقا ... , ومثال ذلك: أن يقدم الوارث على بيع حصته في التركة لكون هذه الأخيرة مثقلة بالديون أو لكون أحدا من الأغيار يدعي حقا عينيا عليها[15] وليس الغلط في القانون هو السبب وحده الدافع إلى التعاقد.
واعتبار ما إذا كان الغلط في القانون دافعا إلى صدور الرضا أم غير دافع مسألة من مسائل الواقع التي يفصل فيها قاضي الموضوع على ضوء ملابسات القضية والظروف المحيطة بها[16]وفق ما تنص عليه المادة 64 من قانون الالتزامات والعقود[17] ولا رقابة عليه في ذلك من طرف المحكمة العليا.
يشترط للغلط في القانون أن يكون مما يعذر فيه بالجهل.-
تنص المادة 60 على أن " العقد المبني على جهل عاقده لما له من الحق يجوز فيه الإبطال ... 2 إذا كان مما يعذر فيه بالجهل ."-
وتقابل هذه المادة المادة 40 من قانون الالتزامات والعقود المغربي التي تنص هي الأخرى على أن " الغلط في القانون يخول إبطال الالتزام .... 2 إذا أمكن العذر منه "
فوفقا لهاتين المادتين لا يمكن الأخذ بالغلط في القانون إلا إذا كان مما يعذر فيه بالجهل , ولا يجز أن يكون دافعا إلى التعاقد فحسب ،.
ومثال العذر بالجهل أن يكون الواقع في الغلط شخصا أميا لا يقرأ ولا يكتب، أما إذا كان الواقع في غلط في القانون هو دارس للقانون فلا يعتد بغلطه ولا يمكنه التمسك بهذا الغلط لطلب إبطال العقد لأن المشرع اشترط جواز العذر عن هذا الغلط ولا يعذر إلا من كان يمكن السماح له بجهل القانون[18]فالوريث الذي يتنازل عن حصته الإرثية وهو رجل من رجال القانون لكونه يجهل قواعد الإرث في الشريعة الإسلامية فلا يعتد بالغلط الذي وقع فيه لأن هذا الغلط ليس لمثله أن يقع فيه[19].
يشترط للأخذ بالغلط في القانون ألا يتعارض مع نص خاص.-
لم يرد هذا الشرط في المادة 60 أعلاه ، ومع ذلك قد يكون الغلط في القانون دافعا إلى التعاقد ومما يعذر فيه بالجهل أيضا ، ولكن القانون يمنع من التمسك به فلا يكون موجبا لإبطال التصرف.
ومن أمثلة هذا الغلط ما ورد في المادة 93 والمادة 1044 من ق.ل.ع. حيث ورد في المادة 93 ما يلي : " الدفع الذي يتم تنفيذا لدين سقطت دعواه بالتقادم أو لالتزام معنوي لا يخول الاسترداد إذا كان الدافع متمتعا بأهلية التصرف على سبيل التبرع ولو كان يعتقد غلطا أنه ملزم بالدفع أو كان يجهل واقعة التقادم ." وورد في المادة 1044 أنه " لا يجوز الطعن في الصلح بسبب غلط في القانون ..."
فوفق المادة 93 والمادة 1044 فإن الغلط في القانون لا يعتد به في مجال التقادم ولا في مجال الصلح ، فمن دفع دينا سقطت دعواه بالتقادم ظنا منه أنه ملزم بدفعه لا يمكنه استرداد ما دفع على أساس الغلط في القانون ، كما أن الطعن في الصلح لغلط في القانون غير مستساغ قانونا مادام عقد الصلح يبغي حسم النزاع بين أطرافه ، فكان السماح بالطعن فيه لغلط في القانون من شأنه إحياء النزاع من جديد وهو ما لا ينبغي لذلك حظره المشرع.
ويقابل الفصل 1044 الفصل 1112 من ق.ل.ع. المغربي [20] وقد أيد المجلس الأعلى المغربي سابقا - محكمة النقض حاليا - مضمون الفصل 1112 في قرار له جاء فيه " إن مسألة عدم اطلاع المشتري على رسوم المحافظة العقارية يعد غلطا في القانون من شأنه أن لا يؤثر في عقد الصلح..."[21]
2- الغلط في الواقع.
الغلط في الواقع يقابل الغلط في القانون وله حالات عديدة جاءت في ق.ا.ع . وهي:
أــ الغلط في الشيء ، ب ـ الغلط في الشخص، ج الغلط في الحساب ،دـ الغلط الصادر من الوسيط.
أــ الغلط في الشيء.
تنص المادة 61 من ق.ا.ع.م على ما يلي: "يخول الغلط الإبطال إذا وقع في ذات الشيء أو في نوعه أو في صفة فيه كانت هي السبب الدافع إلى الرضا ".
فالغلط الواقع في الشيء وفق هذه المادة قد يقع في ذات الشيء (مادته) كما قد يقع في نوعه أو صفته.
ولعل أول ما يلفت النظر هو نص هذه المادة على "ذات الشيء" وهي بصدد بيان أحكام الغلط كعيب من عيوب الرضا ، في حين أن الغلط في ذات الشيء يعدم الرضا ولا يعيبه فحسب ، ومثاله : شخص يملك سيارتين من صنفين مختلفين فباع إحداهما والمشتري يشتري الأخرى [22] أو أن يكون لدى البائع قطعتان أرضيتان إحداهما في مدينة "كيفه" والأخرى في قرية " صموكه " فيرغب في بيع التي في كيفه وتنصرف إرادة المشتري إلى شراء القطعة التي في صموكة ...، هذا النوع من الغلط هو الذي يسمى بالغلط في ذاتية الشيء أو في محله وهو يعدم الرضا ويعتبر من الغلط المانع ويقف عقبة دون انعقاد العقد لانعدام التراضي من أساسه .
وأمام القول بأن الغلط في ذاتية الشيء يعدم الرضا ولا يعيبه لم يبق إلا القول بأن مشرعنا لعله قصد ب "ذات الشيء " مادته وهذه هي العبارة الواردة في المادة 1110 من القانون المدني الفرنسي واستقاها مشرعنا الوطني من ق.ل.ع. المغربي ، والفقه والقضاء المغربيان يذهبان إلى تفسير مصطلح الذاتية الوارد في الفصل 41 من ق.ل.ع. المغربي [23] بمصطلح مادة الشيء الذي يعتبر أقرب إلى قصد المشرع [24]، ومادة الشيء هي مجموع العناصر التي تدخله في جنس معين ، فمن اشترى خاتما على أنه من ذهب ثم تبين أنه من نحاس أو فضة يكون قد وقع في غلط في مادة الشيء أي في الجنس الذي يدخل فيه والذي يميزه عن غيره ، وبموجب ذلك يخوله هذا الغلط المطالبة بإبطال التصرف ، ومثاله أيضا من اشترى ( شمعدان ) من نحاس مطلي بالفضة وكان يعتقد أنه من الفضة الخالصة[25].
واختلف الفقه في تفسير عبارة " مادة الشيء " الواردة في الفصل 1110 من القانون المدني الفرنسي ، فمن الفقهاء من فسرها تفسيرا حرفيا واعتبر المراد بها الغلط المتعلق بالمادة التي يتكون منها الشيء ، ويخرج بذلك الغلط الواقع في جوهر الشيء لا في جنسه ، غير أنه ظهر تيار فقهي آخر يميل إلى إعطاء مادة الشيء مفهوما أوسع بحيث تشمل إلى جانب جنس الشيء الصفة الجوهرية التي يشتمل عليها وتدفع المتعاقد بالتعاقد على أساس توفرها : كمن اشترى آنية على أنها أثرية ثم تبين أنها عكس ذلك ليست بأثرية فصفة الأثرية إذا انتفت من الشيء محل التعاقد وكان الاعتقاد بتوفرها دافعا لصدور الرضا يحق للضحية التمسك بانتفائها للمطالبة بإبطال التصرف حسب الرأي الفقهي الأخير ، وسمي المذهب الأول بالمذهب الموضوعي أو المادي ، وسمي المذهب الثاني بالمذهب الذاتي ومن أنصاره الفقيه : لوران ،وبوردي وبارد وجوسران وكابيتان ، والفقيهان أوبري ورو اللذان أخذا بالمذهب الموضوعي في بادئ الأمر ثم عدلا عنه إلى الأخذ بالمذهب الذاتي[26] ، و.ق.ل.ع. تأثر بالنظرية الحديثة فسوى في الحكم بين الغلط الواقع في ذات الشيء ( مادته ) والغلط الواقع في نوعه أو في صفته ، فالغلط الواقع في صفة جوهرية للشيء أو في نوعه يخول الإبطال كالغلط الواقع في مادته ، مادام اعتقاد الطرف بوجود تلك الصفة أو ذلك النوع قد دفعا لصدور الرضا حسب المادة 61 من نفس القانون.
ومثال الغلط الواقع في صفة جوهرية للشيء شراء شخص لهاتف على أنه من صناعة أصلية فإذا به غير ذلك ، ومثال الغلط الجوهري المتعلق بالنوع شراء شخص لبضاعة على أنها من النوع الجيد والحقيقة أنها من النوع الرديء، ومثاله كما يقول السنهوري " بيع أرض على أنها تحد من الجهة الشرقية بشارع عرضه 5 أمتار يتبين بعد ذلك أن هذا الشارع لا وجود له مما يجعل الأرض محصورة ولا منفذ لها إلى الطريق العام[27] فجميع هذه الحالات تخول إبطال التصرف وفق المادة 61 من ق.ل.ع. مادام الغلط دافعا لصدور الرضا ، وعلى العكس من ذلك لا يمكن إبطال التصرف على أساسها إذا لم يكن الغلط في تلك الصفة أو النوع أو الشيء دفع إلى صدور الرضا وكان سببا ثانويا للتعاقد ، كمن اشترى هاتفا على أساس أنه أصلي معتقدا أن كامرته جيدة التصوير ثم يظهر فيما بعد أن الهاتف أصلي حقا ، أما الكاميرا فرديئة التصوير، فجودة الكاميرا سبب ثانوي غير دافع لصدور الرضا ولا يخول إبطال التصرف وفق المفهوم الخالف للمادة 61 ، ومعيار الجوهرية من عدمه من أمور الواقع التي يفصل فيها قاض الموضوع دون رقابة عليه في ذلك من المحكمة العليا.
(ب): الغلط في الشخص.
تنص المادة 62 من ق.ل.ع. على أن " الغلط الواقع على شخص أحد المتعاقدين أوعلى صفته لا يخول الفسخ إلا إذا كان هذا الشخص أو هذه الصفة أحد الأسباب الدافعة إلى صدور الرضا من المتعاقد الآخر"
فالغلط في الشخص قد يتعلق بذات المتعاقد ، وقد يتعلق بصفة جوهرية فيه رغم أنه من الصعوبة بمكان تمييز الغلط المتعلق بذات الشخص عن الغلط المتعلق بصفة فيه، غير أنه يمكننا إعطاء أمثلة على كلا النوعين نميز منها الفوارق بينهما كما أنه جدير بالذكر أن الغلط الواقع في الشخص يظهر في عقود التبرع أكثر من غيرها...
ومن أمثلة الغلط في الشخص المتعلق بذات المتعاقد أن يهب شخص مبلغا من المال لمن يظنه أخا له من الرضاعة فإذا به غير الشخص الذي قصد ، أو كمن دفع نفقة لمن يظنها أمه والحقيقة الواقعية أنها خالته ، ومن أمثلة الغلط في الشخص المتعلق بصفة في المتعاقد أن يؤجر شخص منزلا لامرأة يعرف عنها السمعة الطيبة ثم يكتشف لمحض الصدفة أنها تمارس الدعارة في الخفاء وأن تلك هي مهنتها التي تتكسب منها [28] ومثاله أيضا المريض الذي يتعاقد مع طبيب على أساس أنه جراح وإذا به طالب متدرب لم يتخرج بعد ، وكمن يودع ماله لمن يعتقد أمانته ونزاهته ثم يظهر فجأة أنه مخادع وسيء الأخلاق...
فإثبات الضحية لوقوعه في غلط في شخص المتعاقد أو في صفة جوهرية فيه لم تعد موجودة أو لم توجد أصلا... يخوله إبطال التصرف للعيب الجوهري الذي لحق إرادته ، ولا يمكن إبطال التصرف لغلط في الشخص أو في صفة فيه إذا لم يكن الاعتقاد بوجود تلك الصفة هو الأساس لصدور الرضا حسب المفهوم المخالف للمادة 62 أعلاه ، وقاضي الموضوع هو الذي يحدد مدى كون الغلط في الشخص دافعا إلى صدور الرضا أم غير دافع حسب ظروف وملابسات كل قضية على حده [29].
واختلف الفقه في صفة " العسر واليسر " هل يعتبران من الصفات الجوهرية للشخص أم لا ؟
ويضربون مثالا على ذلك ب " شخص تقدم إلى بنك لطلب قرض ومنحه البنك ما يريد ظنا منه أنه موسر وقادر على الوفاء في الميعاد المتفق عليه، فهل يستطيع البنك إبطال العقد لتخلف هذه الصفة ؟ وأغلب الفقه يجيب بالنفي لأن هذه الصفة ليست جوهرية في الشخص ولا تؤثر على صحة الرضا "[30].
والمادة 62 من ق.ل.ع. تعتبر الصفة الجوهرية في الشخص بشكل مجرد دون استثناء حالة معينة مما يعطي الحرية للقاضي الموريتاني في أن يعتبر العسر واليسر صفتان جوهريتان في الشخص كغيرهما من الصفات يحق لمن وقع في غلط بشأنها إبطال التصرف إذا كان الاعتقاد بوجود تلك الصفة هو الدافع إلى صدور الرضا من الضحية الواقع في الغلط.
(ج) : الغلط في الحساب.
الغلط في الحساب أو الغلط المادي أو الخطأ المادي كما سماه. ق.ل.ع . هو نوع من الغلط نص عليه مشرعنا في المادة 63 من ق.ل.ع. إلا أنه لا يؤثر في صحة الرضا ولا يخول بالتالي المطالبة بإبطال التصرف وفي ذلك تنص المادة 63 على أن " مجرد الأخطاء المادية الواضحة لا تكون سببا للفسخ وإنما تصحح " فالأخطاء المادية أو الأخطاء المتعلقة بالحساب لا تكون سببا لفسخ العقد ( إبطاله ) وإنما يجب تصحيحها وفق المادة 63 أعلاه ، وتقابل هذه المادة المادة 43 من ق.ل.ع. المغربي التي جاء فيها " مجرد غلطات الحساب لا تكون سببا للفسخ وإنما يجب تصحيحها "، وتقابلهما المادة 84 من القانون المدني الجزائري ، والمادة 123 من القانون المدني المصري [31] والغلط في الحساب أو الغلط المادي هو الحالة الوحيدة من أنواع الغلط التي نص المشرع الوطني بشكل صريح على أنها لا تؤثر في صحة الرضا ، فما عداها من الحالات الأخرى تعتبر من قبيل الغلط المبطل للتصرف.
( د) : الغلط الصادر من الوسيط.
تنص المادة 65 من ق.ل.ع. على أنه " إذا وقع الغلط من الوسيط الذي يستخدمه أحد المتعاقدين كان لهذا الأخير فسخ الالتزام في الأحوال المنصوص عليها في المادة 61 و62 ...".
فالغلط الصادر من الوسيط في الأحوال المنصوص عليها في المادة 61 والمادة 62 يحق لمن تعاقد باسمه التمسك به للمطالبة بإبطال التصرف الذي أبرم باسمه حسب المادة 65 أعلاه، وهي مأخوذة من المادة 45 من ق.ل.ع . المغربي .
لكنه كان الأولى بمشرعنا ألا يدرج الغلط الصادر من الوسيط ضمن حالات الغلط المسبب للإبطال ، لأن الغلط الصادر من الوسيط لا يعتبر حالة مستقلة من حالات الغلط المتعلق بالواقع ، ولا ذاك المتعلق بالقانون ، مما جعل المادة 65 تحيل على أنواع الغلط الواردة في المادة 61و62 فكان الأولى بمشرعنا عدم ذكره وإدراجه ضمن أحكام الغلط كعيب من عيوب الرضا.
ومما يؤكد وجاهة ما ذهبنا إليه أن بعض التشريعات العربية لم تنص على ما يسمى ب " الغلط الصادر من الوسيط " [32]، فكان على قانون الالتزامات والعقود الموريتاني مسايرتها والاستفادة من أحكامها بدل الاقتباس الأعمى من قانون الالتزامات والعقود المغربي.
ثانيا : موقف ق.ل.ع.م. من النظريتين التقليدية والحديثة في الغلط ، ومن الغلط المشترك.
عرف الغلط - كعيب من عيوب الرضا - نظريتان أساسيتان تسمى إحداهما بالنظرية التقليدية ، وتسمى الثانية بالنظرية الحديثة.
وقد كان القانون الفرنسي القديم والفقه الفرنسي التقليدي يأخذ بالنظرية التقليدية في الغلط، غير أنه سرعان ما بدأ الفقه في وقت متأخر يجنح نحو ابتكار نظرية حديثة في الغلط وسايره في ذلك الكثير من التشريعات[33], والنظرية التقليدية في الغلط تقسمه من حيث تأثيره في صحة العقد إلى ثلاثة أقسام: غلط يجعل العقد باطلا وسمي بالغلط المانع ، وغلط يجعل العقد قابلا للإبطال لمصلحة المتعاقد الذي وقع فيه ، ونمط ثالث من الغلط لا يؤثر في صحة العقد.
فالغلط الذي يجعل العقد باطلا زمر ثلاث : غلط يتعلق بماهية العقد كمن سلم شخصا مبلغا من المال على أنه قرض فظنه الآخر هبة ، وغلط يتعلق بمحل العقد أو ذاتية الشيء كما لو كان شخص يملك سيارتين من صنفين مختلفين فباع إحداهما والمشتري يعتقد أنه يشتري الأخرى ، وغلط يتعلق بسبب العقد كما لو اتفق الورثة مع الموصى لهم على قسمة العين الشائعة بينهم ثم يتضح أن الوصية باطلة[34] ، فالعقد في هذه الزمر الثلاث باطل تماما لانعدام ركن الرضا.
والقسم الثاني من أنواع الغلط - حسب النظرية التقليدية - هو الغلط المسبب للإبطال ويكون في حالتين : غلط يقع في مادة الشيء حسب مدلول المادة 1110 من القانون المدني الفرنسي ، وغلط يتعلق بشخص المتعاقد إذا كانت محل اعتبار.
أما القسم الثالث من أنماط الغلط وفق النظرية التقليدية فهو أربع حالات أساسية : غلط يتعلق بشخص المتعاقد وبمادة الشيء إذا لم تكن تلك الشخصية محل اعتبار ولم تكن المادة دافعة إلى التعاقد ، وغلط يتعلق بالباعث على التعاقد ، وحالة رابعة تتعلق بقيمة الشيء محل التعاقد .
وإلى جانب هذه النظرية برزت نظرية حديثة ألغت ما يسمى بالغلط المانع ولم تدرجه ضمن أنواع الغلط المعيب للرضا باعتباره يعدم الرضا ولا ينبغي الاعتداد به كعيب من عيوب الرضا ، ثم مزجت هذه النظرية بين الغلط المعيب للرضا والغلط الذي لا يؤبه به وفق النظرية التقليدية مؤسسة بذلك لما يسمى ب " جوهرية الغلط " ، أي أن الغلط مادام جوهريا يعتد به كعيب من عيوب الرضا سواء وقع في مادة الشيء أم في شخص المتعاقد ، أم في الباعث على التعاقد أم في قيمة الشيء محل التعاقد.[35]
كما نادى كثير من الفقهاء إلى وجوب أن يكون الغلط مشتركا بين طرفيه إضافة إلى وجوب جوهريته في نظر المتعاقدين ، وما دام المتعاقد الآخر لم يقع في نفس الغلط فلا تمكن مواجهته بإبطال التصرف ، وهذا ما يسمى ب "الغلط المشترك " إضافة إلى أن الغلط ولو كان جوهريا ومشتركا لا يمكن الأخذ به مادام يتنافى مع ما يقضي به حسن النية في التعاقد.
فالسؤال الجوهري هنا يتعلق بطبيعة الموقف الذي تبناه . ق.ل.ع. من نظريتي الغلط آنفتي الذكرمن جهة ، ومدى اعتداده بالغلط المشترك الذي أخذت به بعض التشريعات العربية[36] من جهة ثانية.
1- موقف قانون الالتزامات والعقود الموريتاني من نظريتي الغلط.
سنتناول موقف ق.ل.ع.م. من النظرية التقليدية في الغلط أولا ، ثم موقفه من النظرية الحديثة ثانيا.
أ- موقف ق .ل.ع. من النظرية التقليدية.
إن أهم ما يميز النظرية التقليدية في الغلط هو أنها تقسمه إلى ثلاثة أقسام : قسم يجعل العقد باطلا ، وقسم يجعله قابلا للإبطال ، وقسم ثالث لا يؤبه به وفق التفصيل الذي ذكرنا سابقا.
ويمكن القول بأن ق .ل.ع. قد تأثر- من ناحية - بالنظرية التقليدية في الغلط ، لأنه لم يجعل ضابط الغلط هو معيار الجوهرية فحسب كما تقول بذلك النظرية الحديثة وكرسه القانون المدني المصري والقانون المدني الجزائري ، حيث تنص المادة 120 من القانون المدني المصري على أنه :
" إذا وقع المتعاقد في غلط جوهري جاز له أن يطلب إبطال العقد..." ، وتنص المادة 81 من القانون المدني الجزائري كذلك على أنه " يجوز للمتعاقد الذي وقع في غلط جوهري وقت إبرام العقد أن يطلب إبطاله " ، حيث يلا حظ من خلال هاتين المادتين اعتماد المشرعين بمعيار جوهرية العقد فحسب ، أي أنه مادام الغلط جوهريا يعتد به وليس مقيدا بأن يكون قد وقع في مادة الشيء أم في شخص المتعاقد ، أم في الباعث على التعاقد ، أم في القيمة...
ومادام مشرعنا لم يجار النظرية الحديثة في الغلط التي كرسها المشرعان المدني والمصري فإن ذلك يعد تأثرا بالنظرية التقليدية التي لا تعتمد معيارا موحدا يمكن الأخذ به ينطبق على جميع أنواع وحالات الغلط.
وعدم الأخذ بمعيار موحد ينطبق على جميع حالات الغلط هو موقف المشرع المغربي الذي تأثر بالنظرية التقليدية للغلط ، واستقى منه مشرعنا ذلك التأثر[37].
ب:موقف ق.ل.ع. من النظرية الحديثة في الغلط.
إن ما يميز النظرية الحديثة في الغلط هو أنها لا تأخذ إلا بنية المتعاقدين لتقدير الغلط ، فما دامت نية المتعاقدين قد انصرفت إلى اعتبار صفة للشيء جوهرية فيجب اعتبارها كذلك - ولو لم يقع الغلط في مادة الشيء أو في شخص المتعاقد فحسب كما ترى النظرية التقليدية- ، فمن اشترى شيئا على أنه أثر تاريخي ويعتقد في ذات الوقت أنه مصنوع من ذهب ، فيتضع أنه مصنوع من ( البرونز ) فهناك غلط في مادة الشيء ولكنه بحسب نية المشتري ليس غلطا في الصفة المعتبرة عنده ، وما دام الذي اشترى له الأثر التاريخي الذي يقصده فلا عبرة بعد ذلك إن كان من ذهب أو من معدن آخر [38]، وأخذ القضاء الفرنسي في آخر عهده بهذه النظرية وفسر عبارة " مادة الشي " الواردة في المادة 1110 من القانون المدني الفرنسي تفسيرا واسعا ، بحيث تشمل بالإضافة إلى الخصائص التي تدخل الشيء في جنس معين ( كالذهب أو الفضة مثلا ... ) صفة معينة فيه ما دام المتعاقدان قد اعتبراها جوهرية ، وأخذ المشرعان المصري والجزائري بهذه النظرية على إطلاقها [39] ، أما مشرعنا الوطني فلم يأخذ بالنظرية الحديثة على إطلاقها وإن كان تأثر بها هي الأخرى لا سيما في المواد 60، 61 و 62 .
ففي المادة 61 نص ق.ل.ع على أن " الغلط يخول الإبطال إذا وقع في ذات الشيء ( مادته ) أو في نوعه أو في صفة فيه كانت هي السبب الدافع إلى الرضا ..." وهذا تأثر لا مراء فيه بالنظرية الحديثة التي تذهب إلى تفسير موسع لمصطلح " مادة الشيء " الواردة في المادة 1110 من القانون المدني الفرنسي لتشمل الصفة الجوهرية للشيء ما دام المتعاقدان قد اعتبراها أساسية للتعاقد، وفي المادة 62 نص المشرع على أن " الغلط الواقع على شخص أحد المتعاقدين أو على صفته لا يخول الفسخ ( الإبطال ) إلا إذا كان هذا الشخص أو هذه الصفة أحد الأسباب الدافعة إلى صدور الرضا من المتعاقد الآخر" ، وهذه المادة بدورها قد وسعت من نطاق النظرية التقليدية فشملت الصفة الجوهرية للشخص إلى جانب الغلط في شخصه.
فمن تعاقد مع شخص على أنه حسن السمعة ثم تبين أنه مخادع يكون قد وقع في غلط في صفة لهذا الشخص غير متوفرة كانت هي الدافع إلى صدور الرضا، ومن وهب مالا لمن يظنه فقيرا ثم تبين أنه غني ، يكون قد وقع في غلط في صفة كانت دافعة للتعاقد يحق له بموجب ذلك طلب إبطال التصرف وفق المادة 62 من ق. ل. ع. ، وهذا أخذ بالنظرية الحديثة في الغلط وتأثر واضح، كما يبدو التأثر بالنظرية الحديثة في الغلط أكثر جلاء ووضوحا من طرف المشرع في المادة 60 المتعلقة بالغلط في القانون والتي تنص على أن " العقد المبني على جهل عاقده لما له من الحق يجوز فيه الإبطال في الحالتين (1) إذا كان هو السبب الوحيد أو السبب الأساسي في التعاقد (2) إذا كان مما يعذر فيه بالجهل ".
فمعيار الغلط في القانون وفق هذه المادة - بالإضافة إلى إمكان العذر بالجهل - هو الجوهرية ، والجوهرية وإن لم يعرفها ق.ل.ع. إلا أنها تعني أن يكون لولا الغلط أو الوهم الذي حاق بإرادة المتعاقد لما رضي إبرام التصرف ، أو أن يكون الغلط دافعا إلى صدور الرضا كما ورد في المواد 60 و61 و62 ، وعرفها القانون المدني الجزائري بنفس المعنى ، فجاء في المادة 82 جزائري ما يلي " يكون الغلط جوهريا إذا بلغ حدا من الجسامة بحيث يمتنع معه المتعاقد عن إبرام العقد لو لم يقع في هذا الغلط " ، وعرفها المشرع المصري بنفس التعريف[40] .
هذا وإذا كان ق.ل.ع. قد تأثر بالنظرية الحديثة بشكل واضح وجلي فيما يخص الغلط المتعلق بالشيء والغلط المتعلق بالشخص والغلط المتعلق بالقانون ، بأن جعل معيارا واضحا ومحددا في جميع تلك الحالات وهو معيار الجوهرية بنص المواد 60،61،62 إلا أنه سكت سكوتا مطبقا حيال الغلط الواقع في قيمة الشيء والغلط المتعلق بالباعث على التعاقد، وهو ما يعني مخالفة النظرية الحديثة في الغلط والنظرية التقليدية معا، فلا المشرع جعل معيار الغلط في كل الحالات هو جوهريته في نظر المتعاقدين كما نص على ذلك المشرع المصري والمشرع الجزائري[41] ولا هو أخذ صراحة بالنظرية التقليدية للغلط واستبعد بالنص الغلط المتعلق بالباعث والغلط المتعلق بالقيمة من دائرة أنواع الغلط المسبب للإبطال.
ومن أمثلة الغلط في الباعث أن يؤجر عامل منزلا في بلد لاعتقاده أنه قد تم تحويله إلى ذلك البلد للعمل فيه ثم يظهر أنه تم تحويله إلى بلد آخر غير ذلك البلد، ومنه أيضا " أن يبيع شخص عينا وهو مريض جازما أنه في مرض الموت ، ثم يشفى من المرض، فهو لا يستطيع أن يطعن في البيع بدعوى أنه صدر منه وهو في مرض الموت لأن هذا الطعن لا يقبل إلا من الورثة وبشرط أن ينتهي المرض بالموت، ولكن يمكنه إبطال العقد على أساس الغلط في الباعث إذا طبقنا النظرية الحديثة في الغلط"[42]، ومن أمثلة الغلط الواقع في القيمة أن يكون لشخص سهم قد حصل على جائزة بقيمة معتبرة، فيبيعه بقيمته العادية جهلا منه بحصوله على الجائزة التي تزيد من ثمنه لا محالة ، فالبائع في هذه الحال قد وقع في غلط في قيمة الشيء المبيع يخوله طلب إبطال التصرف وفق النظرية الحديثة في الغلط مادام الغلط جوهريا ودافعا إلى التعاقد.
2- : موقف ق.ل.ع. من الغلط المشترك.
يعني الغلط المشترك أن يكون كل من أطراف العلاقة التعاقدية قد وقع ضحية الغلط ولا يجزي فقط أن يقع فيه أحدهما حتى تتسنى له المطالبة بإبطال العقد بل لا بد أن يقع معه الطرف الآخر في نفس الغلط.
وقد نادى بهذه النظرية كثير من الفقهاء ، فرأوا أن الغلط الفردي ليس كاف بل يجب أن يكون الغلط مشتركا بين المتعاقدين (erreur commune ) .
فإذا افترضنا مثلا أن شخصا باع لآخر صورة على أنها من صنع مصور مشهور وجب أن يكون كل من البائع والمشتري يعتقد أن الصورة هي من صنع هذا المصور حتى يجوز للمشتري طلب إبطال هذا البيع إذا تبين أن الصورة ليست من صنع ذلك المصور ، أما إذا كان المشتري وحده هو الذي يعتقد ذلك دون البائع فلا يكون هناك غلط مشترك ولا مجال بالتالي لإبطال العقد [43] ، ومنه أيضا شراء شخص لشيء على أنه أثري فمادام البائع لا يعتقد مثله غلطا أنه أثري فلا يكون ثمة غلط مشترك ولا إمكانية لإبطال العقد.
ومن التشريعات ما أخذت بالغلط المشترك واستلزمت أن يكون المتعاقد الآخر قد وقع في هذا الغلط ، أو كان على علم به، أو كان من السهل عليه أن يتبينه ، مثل المشرع المصري الذي تنص المادة 120 من قانونه المدني على أنه " إذا وقع المتعاقد في غلط جوهري جاز له أن يطلب إبطال العقد إن كان المتعاقد الآخر قد وقع مثله في هذا الغلط ، أو كان على علم به، أو كان من السهل عليه أن يتبينه " .
فيلاحظ من خلال هذه المادة أن المشرع المصري يأخذ بالغلط المشترك وبالغلط غير المشترك إن كان المتعاقد الآخر يعلم أن المتعاقد معه قد وقع ضحيته ورغم ذلك يستمر في التعاقد معه دون أن ينبهه على الوهم الذي حاق بإرادته ، وحالة ثالثة أخذ به المشرع المصري وهي أن يكون المتعاقد مع الواقع في الغلط من السهل عليه أن يتبين أنه وقع ضحية غلط ، كأن يبيع صاحب حانوت مشهور ببيع الأثاث الأثرية أثاثا ليس أثريا لمن قصده للتعامل معه، فصاحب الأثاث الأثري من السهل عليه هنا أن يعلم أن من يقصده للتعامل معه ما جاء إلا سعيا وراء تلك الصفة الأثرية في الأثاث محل البيع ، فإذا تبين للمشتري أن الأثاث ليس أثريا جاز له إبطال التصرف للغلط الذي وقع فيه والبائع لا يمكنه الاحتجاج بأنه لم يشترك في الغلط أو أنه لم يكن عالما بوقوعه لأنه من السهل عليه أن يتبين ذلك مادام مشهورا ببيع الأثاث الأثري ولا يحوي حاناته في الغالب سواها، ففي هذه الحال لاحق له في الشكوى من إبطال العقد لأنه مقصر[44] و .ق.ل.ع. لم يرد فيه أي نص يبين موقفه من الغلط المشترك.
ونحن نرى ضرورة إدراج نص في .ق.ل.ع. يستلزم فيه المشرع للأخذ بالغلط وجوب أن يكون مشتركا بين الطرفين، أو يكون من السهل على غير الواقع فيه من الطرفين تبينه وملاحظة الوقوع فيه من طرف الضحية ، وأحرى إذا كان عالما يقينا بوقوعه فيه وتمادى في عدم تنبيهه وإخباره بالوهم الذي حاق بإرادته ، وبالنص على ذلك يكون المشرع قد ساهم في إقامة علاقات متوازنة وبعيدة عن كل أوجه الاستغلال والتعسف بين أطراف العلاقة التعاقدية...
الخاتمة :
من خلال سبرنا لأغوار أحكام الغلط كعيب من عيوب الرضا وفق قانون الالتزامات والعقود الموريتاني ندرك مدى العناية التي أولاها المشرع لهذا العيب من عيوب الرضا، حيث تطرق له في ست مواد استهلها بالمادة 60 وأنهاها بالمادة 65، فتناول أحكام الغلط في القانون وشروطه في المادة 60، وأحكام الغلط المتعلق بذات الشيء (مادته) أوفي نوعه أو في صفة فيه كان هي الدافع إلى الرضا في المادة 61 في حين عالج أحكام الغلط في الشخص ، والغلط الصادر من الوسيط ، والغلط في الحساب في المواد 62،65،63 .
وقد بدا التأثر بالنظرية الحديثة للغلط جليا في المادة 60 والمادتين 61،62 وهو توجه محمود لما للنظرية الحديثة للغلط من مساهمة في تكريس مبدإ سلطان الإرادة الذي يعد أهم مبادئ القانون المدني وأشدها حصانة ، إلا أن هناك مآخذ على المشرع، ومجوعة اقتراحات لتجنب تلك المآخذ يمكن إجمالها في الآتي :
- معالجة المشرع لما يسميه بالغلط الصادر من الوسيط الذي تناوله في المادة 65 تأثرا في ذلك بالمشرع المغربي ، مع أن الغلط الصادر من الوسيط ليس حالة مستقلة بذاتها من حالات الغلط ،مما يستدعي من المشرع التدخل بنص صريح لحذف المادة 65 التي لم تأت بجديد يمكن السكوت عليه .
- عدم الحسم في حكم الغلط المتعلق بالباعث والغلط المتعلق بالقيمة مما يستدعي من المشرع التطرق له بنص جديد يسهل على القضاء عمله من جهة وعلى الدارس البحث من جهة ثانية.
- عدم معالجة المشرع للغلط المشترك وسكوته عن ذلك ، مع أن ضرورة قيام علاقات متوازنة بين المتعاملين يحتم أن يكون الغلط مشتركا أو يكون الطرف الآخر من السهل عليه أن يتبينه إذا لم يكن عالما بوقوعه، كما نحا المشرع المصري والمشرع الجزائري.
- سوء الترجمة من النص الفرنسي الذي أخذ منه المشرع الموريتاني نقلا عن المشرع المغربي ، مما جعل المشرع الوطني يأخذ عن المشرع المغربي ما يسميه الأخير "بالغلط الواقع في ذاتية الشيء" والمقصود الغلط المتعلق بمادة الشيء المنصوص عليه في المادة 1110 من القانون المدني الفرنسي ، لأن الغلط المتعلق بذاتية الشيء يعدم الرضا ولا يعيبه فحسب كما بينا سالفا.