صوت الشيوخ الموريتانيون بـ "لا"، وانتهت حكاية المذهب الأحادي في السلطة، والطاعة العمياء، وصحا الرأي العام على استفاقة جديدة، أشاد بها الوطنيون والتخريبيون، وتناقلتها وسائل الإعلام المحلية والدولية، وسجلت في صباحيات السفارات، ووصل صداها دهاليز الاتحاد الإفريقي، وأزقة الأمم المتحدة، ولنا كغيرنا وقفة مع الحدث، نحلل فيها حاضره، وآفاقه المستقبلية.
لقد تأكدنا من خلال الكائنة أن فلاسفة الأنوار أجادوا وأبدعوا في نظرية تقاسم السلط في الدولة، أو ما يعرف بفصل السلطة، فهو صمام أمان من حيث لا يدري كثير من الناس، وما حدث في موريتانيا دليل ساطع على ذلك، فالشيوخ أوقفوا السلطة التنفيذية في الوقت بدل الضائع، ليعيدوا غزلها صوفا، وليبرهنوا على أن الحس الوطني لم يمت بعد، خاصة إذا ما علمنا أن الدستور الجديد كان يحمل في طياته فلسفة الإفلات من العقاب في أبشع صورها، وتكريس حكم السلطة الواحدة، وهو ما سيضيع الفرصة بحيث لا يحاكم الضالعون في الفساد، الذين لا تفوت السلطة التنفيذية نفسها فرصة للدعوة لمحاسبتهم، في حين لو تم إلغاء محكمة العدل السامية، فسيؤسس ذلك لمرحلة القطيعة مع محاسبة بعض آكلي المال العام.
لقد أنقذت أفكار مونتيسيكيو وفولتير وجان جاك روسو وديفيد هيوم وكانط ماء وجه الديمقراطية الموريتانية، وأعطونا فرصة –خاصة مونتيسيكيو وفولتير- للوقوف مع ذواتنا، ولمحاسبة النفس، فأفكارهم النظرية هي المترجمة في الدساتير عن فصل السلط، والسلطة التشريعية –عندنا- دحضت النموذج الاستبدادي، دحضته وهي منتهية الصلاحية، مما يعني أنها لو كانت في كامل مشروعيتها كانت لتكون أحسن أداء مما هي عليه.
ويحدث ما يحدث في ظل كثرة بكائيات السلطة القضائية على الأنترنت، ممثلة في كتابات قضاة لا يروقهم الحال على ما يبدو، ويمتعضون من أساليب السلطة التنفيذية، الممارسة بقوة وجبروت وجلجلوت، والضاغطة حتى على صوت الحق، وصداه في الواقع، لحد أن صارت قوة الحق في بعض السلط خافتة لمصلحة حق القوة التنفيذية.
والحقيقة المستخلصة لحد الساعة هي أن نشيد الشيخ سيديا-بابه محل إجماع وطني، ولا توجد مسوغات مقبولة لإعلان الحرب عليه، كما أن العلم الوطني غير محتاج لبديل، والمقاومة مهمة دون أدنى ريب، لكنها أقرب للأخضر منها للأحمر، ومؤخرا ترجم الكثير من مذكرات الفرنسيين عنها، وأسهم في نفض الغبار المتراكم فوقها بافتراض أن المنتصر –نحن- لا نكتب التاريخ، بل التأريخ، وقد تماشت الكتابات الفرنسية المفرج عنها مع كثير من المرويات الشعبية عن بلاد السيبة، فالرائد جوليى –مثلا- في كتابه "التوغل في موريتانيا" قدم شرحا انتربولوجيا وجغرافيا وتاريخيا مفصلا عن المنطقة منذ ما قبل الميلاد، وحتى 1960، وتحاذى في كثير من المعطيات مع الذاكرة الشعبية الموريتانية، علما أن كل شهادة تشوبها النواقص لعدم وجود الحياد القيمي، الذي هو إبعاد الذات عن الموضوع عند الألماني ماكس فيبر.
وقضية العلم والنشيد تعد ثانوية في حياتنا الراهنة، فلا هي الخبز، ولا اللحم، ولا حبيبات الأرز، ولا حتى عيدان المعكرونة، ولا الملبس، ولا المشرب، ولا التعليم للأطفال، ولا الحرية للمستعبدين، ....، وليست في النهاية أولوية وطنية، ولا تكتسي طابع الضرورة والاستعجال، لكنها الوجبة المسمومة، التي تقدم لثلاثة ملايين جائع، نهبوا نهبا لما، ونسفت آمالهم المشروعة، ولم يبق لهم قطمير ولا شيء سوى البكاء على الماضي إن وجدوا الدموع الكافية.
وليس لدي أدنى شك بأن الأوروبيين والأمريكيين يتابعون الوضعية الراهنة في موريتانيا، وأن الحركات غير المحسوبة ستكون –لا قدر الله- كارثة، وأتمنى أن تدعم القوى الحية في موريتانيا اللعبة الديمقراطية بالشكل الصحيح من أجل السلم الأهلي، والمصلحة العامة، فموريتانيا يجب أن تكون فوق كل اعتبار، وهي أغلى ما يملك شعبها المنهوب، أما حكاية الأموال الضخمة المسروقة فكونوا على يقين أن جحافلا تتحرك في الظلام من أجل الحصول عليها بالمحاكم الدولية، وبالتمالؤ الدولي.
لقد أبانت تصويتات الشيوخ عن ضعف قوي في النسيج الاجتماعي التقليدي، فشيخ بومديد طعن الفريق غزواني، كما حرص إبنا عمي الرئيس في الشيوخ على اغتيال أحلام سلطته التنفيذية.
وعلى الرغم من وجود شيخ أوجفت، صهر الرئيس، فقد أجهض حلم الأغلبية، ولم تشفع توصيات الإتحاد من أجل الجمهورية إن وجدت، ولا العشاء الدسم الذي تكرمت به الرئاسة لشيوخ أغلبيتها، وهنا بدأ المراقبون –فعلا- يصدقون بأن الأغلبية الداعمة تعيش شرخا، وصراعا على التركة، تلك التركة العريضة، فمنها الدولة شعبا وسلطة وإقليما، ومنها المال الرابض في الخارج وفي الداخل بالبنوك، ومنها المؤسسات والهيآت الوطنية، والأراضي الشاسعة، والأبنية الغريبة فنادقا ومساكنا، وكذا رجال أعمال بالعدة والعتاد.
ورغم وجود أصوات تركن لنظرية المؤامرة في تصويت الشيوخ، فإن ما يطمئن له الرأي العام المعبر عنه في المعارضة والموالاة ليس المؤامرة، بل الرزانة والمغامرة، فالشيوخ حكماء، وقد غامروا في ذات الوقت، فالسلطات التنفيذية في العالم الثالث باطشة، فإما أن تخاف الخارج، وحينها ستتعامل بما أتيح من مكر ودهاء، وإما أن تتعامل بإفريقيتها المقيتة، وحينها تسجن وتعربد وتغتال، وتطأ القانون بأظلافها، ولا تؤمن السلطة إلا إذا خافت سلطة أقوى منها على أية حال، وغالبا تتبسم منحنية للخارج، في حين ترفس بقوة في الداخل، وتتجلى رزانة الشيوخ في اغتنام الفرصة السانحة، والتصويت بـ "لا" لأنفسهم، وللشعب.
ونعتقد جازمين أن النظام الحالي خانته أغلبيته، ولن ترحمه معارضته، وسيعي في ختام رقصة المذبوح بأن فرنسا ليست بالسهولة المحتسبة عنده، وتجاوزها في أفريقيا يحتاج لمعجزات كبيرة، أقلها وجود أنظمة تحارب الفساد، ولا تنغمس فيه انغماسا، تحله عاما، وتحرمه أعواما... والفهم ...