احتفلت بلادنا على غرار دول العالم باليوم العالمي لغسل اليدين، وتسابق مسؤولون كبار وآخرون متوسطون وآخرون دون ذلك إلى غسل أيديهم أمام التلفزة والإذاعة. وفي الأمر معان ووقفات كثيرة، فالأصل أن الأفعال الرسمية حمالة أوجه، قابلة للتأويل والتعليل كثيرة المفاهيم والدلالات، هكذا أيضا عودنا الإعلام الرسمي عندما يتحدث عن الدلالات الإصلاحية في خطابات الفخامة الوطنية.
وقد ظهر لي من تلك الدلالات شذرات قليلة أسوقها قبل أن أبحث عن صابونة أنا الآخر. ذلك أن الغسل والصابون يدخلان دخولا أوليا في أهداف وسياسات الحكومة التي تسعى إلى غسل أدران الماضي، وبين الحين والآخر تغسل بعض وعودها بدل الفقر، وفي بعض مسوؤليها سماجة كبيرة، وأصدق الوصف فيها أنها "أغسل من صابونة". و"أغسل" ما في الأمر أن السلطات الموريتانية اختارت مغاسل زرقاء ولعلها منحت لمقاول – دون مناقصة ولا مزايدة- وهو أمر تكرهه المعارضة وتصنفه ضمن الفساد الذي ينبغي أن يغسل من الأرض، وأن الحكومة استعانت بصابون من النوع المعروف تقليديا بصابون 70 "على الأقل كان هذا اسمه عندما كنت في السنة الرابعة ابتدائية"، وفي ذلك فساد كبير، ذلك أن صابونة صغيرة مما يشرى بـ20 أوقية تكفي في الغالب لغسل أيدي عشرة من بني آدم، فلماذا الإسراف؟ وفي مناطق أخرى تأخرت السلطات الرسمية عن "غسل أيديها" حتى ترى " غسلة" أهل المخزن في نواكشوط، وحدثني صحفي موثوق أن الإدارة في المذرذرة لم تغسل أيديها لحد الآن. ويحسن عندي إن تعددت المغاسل أن يقلد كل أهل قطاع زعيمهم في غسل يديه، وأن لا يتجاوزوا ما فعل قيد أنملة، وليجعل هو شعاره: "اغسلوا كما رأيتموني أغسل". • الأول أن الناس في الغالب لا يغسلون أيديهم في بلادنا إلا بعد انتهائهم من الطعام، وقل أن تجد أهل بيت يغسلون أيديهم بالصابون وهم مقبلون على طعامهم، وإنما تغسل الأيدي بعد الفراغ من الأكل وفي هذا بشارة بحمد لله أن المسؤولين انتهوا من الأكل، ولله الحمد، وفيه نعي لثروة البلد فالأصل أن الحكومة لا تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم. • وثانية الدلالات العميقة في غسل أيدي المسؤولين أنها اعتراف بأنها ملوثة أو ملطخة أو متسخة، ومجال التلوث في أيدي المسؤولين واسع وكبير، وألفاظه كثيرة، ولكن هل يكفي "مغرج" واحد وصابونة، لغسل يدي مسؤول كبير أو متوسط، ولنا أن نتساءل أي صابونا يغسل الأيدي التي لطخت بدماء إخوانها خلال سنوات كثيرة من تاريخ هذا البلد، وهل يغسل ذلك العار حقا؟. على أن غالب الظن أن لا يكون المسؤولون قد سموا الله في الابتداء، ولا حمدوه عند الانتهاء وليس بمستبعد أن يأكل معهم الشيطان، وقد عرف بالشره وزينت له شهوات المأكل والمشرب، وبين هذا وذاك تذهب ثروتنا أدراج الريح، إذ لا يشبع الآكل ولا يكفي المأكول، والناس إن سامحوا المسؤولين في أكل ثروتهم، لم يسامحوهم في إشراكهم الشياطين في ذلك، فللمسؤول أن يقول عند أكله الميزانية "بسم الله على أولها وآخرها" فذلك أضمن للالتهام وأطرد للشيطان... وهل يعقل أن يأكل مسؤول ميزانية إلا والشيطان أكيله وشريبه. • ثم إن من المأكولات الرسمية ما لا يحتاج الصابون قبله ولا بعده مثل المعادن والقطع الأرضية والسيارات، والميزانيات، ومنها ما يحتاج الماء لتسهيل عمليات الأكل وقد عاب أشعب رحمه على ابنه أنه يأكل ويشرب في آن واحد، فاعتذر الابن الحاذق قائلا "لقد كنت أبحث له عن مساغ وأسهل له الطريق". • ومن تلك الدلالات العميقة أن من الناس في الغالب من لا يغسلون أيديهم بالصابون إلا إذا أكلوا طعاما دسما لحما سمينا أو حوتا محمرا، سقي بالزيت حتى احمر أو اسود، والناس اليوم في حل من كل ذلك، فلم يبق الجفاف من الثروة الحيوانية إلا بقايا بقرات وشاء عجاف لا تنقي فهي تتردي من داء إلى آخر ومن سنة شهباء إلى موت ماحق، ولقد بلغنا أن جفافا ماحقا ضرب الناس زمان المرحوم المختار ولد داداه، حتى إن الرجل ليذهل حين يرفع يديه محرما للصلاة فيقول "بسم الله نية أداء صلاة العصر أربع بقرات حضريات" ولو رأى بقراته سمينات يرعين ويعدن حفلا "لقال أربع ركعات لا بقرات" والفقه الاستحضار كما يقال. • وأما الإبل أكرم الله عزاءها وفرج كربها فلم تغادر منها السنة إلا رذايا تستعيد بنا طريق علقمة الفحل: بها جيف الحسرى فأما عظامها *** فبيض وأما جلدها فصليب. وأما الحوت، فهو كالدهر نوعان لا أكثر يوم مضى ويوم ماض أما الذي في البحر فلا سبيل إليه، فقد باعته القيادة الوطنية للصين وليرشفنه رشفا حتى يقال "كان هنا ذات مرة ماء أو حوت، أو هما معا" وأما النوع الثاني – طاب طعامك- فهو سمك صغير رديئ تبيعه القيادة الوطنية أيضا للناس، بعد أن تحشرهم رجالا ونساء وأطفالا في طوابير تملأ عين الشمس، فيخرجون ببعض سمكات، كساها الثلج من كل جانب، فيعودون وقد "ذابت شحمتهم وذاب زيت سمكهم". والحاصل أن المتفحص في النوعين لا يجد بينهما كبير خلاف فمتى أعاد النظر كرة أو كرتين بان له أن الحوت الذي في دكاكين القيادة الوطنية، هو عجائز ومسنون من الحوت أخرجوا من البحر قبل صفقة الصين، وعليه فليس في الحوت إلا نوع واحد، وهو ما ستأكله الصين. • وهنالك دلالة ثالثة لا تخفى على متفحص وهي أن جبِّلا من الناس كبيرا جدا لا يجد ما يغسل يديه إليه، ولا ما يغسل يديه بعده، وإن وجد إليه سبيلا، وقف في طريقه البحث عن الصابون، فهؤلاء قطعا غير معنيين باليوم العالمي لغسل الأيدي بالصابون، ذلك أن أغلبهم محروم من "الأيادي" الرئاسية والمنح الرسمية، وقد قصرت به "ذات اليد" وتناولهم الزمان بيد عسراء، وسلك بهم الفقر ذات الشمال، وتوالت عليهم الإساءة الرسمية فغسلوا أيديهم من الحكومة وقد قال المثل الحساني فأوجز وأحسن "صابون العزة اطياح فلخلاك". وهب أن أزمة الدهر انفرجت عنه، وابتسم له الدهر بعد طول عبوسة، فله أن يقول كما قال السابق وقد قدموا إليه الصابون ليغسل يديه "إن رائحة كسكس أحب إلي من رائحة الصابون". ولسائل أن يقول أي صابون نستخدم، وفي البلاد اليوم أنواع منوعة من الصابون، فمنها النسائي ومنها الرجالي ومنها الجامع بينهما ومنها صوابين للأطفال، ثم إن الماء الصالح للغسل - وليس الشرب- بات من الندرة بمكان في أماكن كثيرة من موريتانيا، وللناس أن يطرحوا سؤالا صورته: ما يقول الفقيه جزاه الله خيرا في أرملة ذات عيال اشترت بيدونا من الماء بـ 50 أوقية، وحملته على حمار ب 20 أخرى، وصادف يوم العيد العالمي لغسل الأيدي، فتغسل أيديها وأيدي العيال أم تخصصه للشراب وضرورات الطهارة والصلاة، أجيبونا جزاكم الله". ولعل الفقهاء يختلفون فيقول أمثلهم طريقة، إن العطش موضة عابرة، مثل الشيوعية، وما شابهها، وأن في الطهارة والصلاة وسائر العبادات رخصا كثيرة، وليس في مخالفة السلطان مندوحة وهو من العزائم التي لا يترخص فيها إلا أهل الأهواء. غير أن سؤالا آخر مهما وعظيما، وهو لم يغسل المسؤلون أيديهم، ولم يروا الرئيس ولا أحدا من كبار وزرائه فعل ذلك، وما أدراهم أن غسلتهم تلك توافق غسلة الرئيس والوزير الأول، ووزير التعليم وسائر الوزراء. ويبقى سؤال آخر: عن الصابون الصالح لغسل الوزراء والمسوؤلين، وهل يتناسب مع أحجامهم طردا، فكلما عظم الحجم والمكانة عظمت الصابونة، وكلما تناقص تناقصت، وكلما ثقلت يد الوزير ثقلت صابونته، وكلما كانت "يده خفيفة" خفت صابونته، وكلما طالت يده طالت صابونته، ولم لم يشارك أحزاب الحوار المعارضة في عملية الغسل إن لم تكن قد غسلت أيديها بعد من الحوار. وعلى كل فإن أغلب الناس في حل من احتفاليات الحكومة، وصابونها وليست في تلك المغاسل الزرقاء التي قدمت أمام التلفزة، مغسل واحد للشعب، ولكنه "مغسل الحكومة".