رفض مجلس الشيوخ الموريتاني (الغرفة العليا في البرلمان) -يوم 17 مارس/آذار 2017- المشروعَ الذي تقدم به الرئيس محمد ولد عبد العزيز لمراجعة الدستور الموريتاني، وإدخال تعديلات عليه تقضي -ضمن أمور أخرى- بإلغاء هذا المجلس نهائيا، وجاء رفض المجلس بعد إقرار الجمعية الوطنية (الغرفة السفلى) لهذا المشروع يوم 9 مارس/آذار.
ويشكل هذا الرفض من مجلس الشيوخ -الذي يتمتع الرئيس وحكومته فيه بأغلبية مريحة (46 من أصل 56)- سابقة في الحياة السياسية بموريتانيا، لم يكن كثيرون يتوقعونها على الإطلاق. فما هي هذه التعديلات؟ وما دوافع مجلس الشيوخ لرفضها؟ وقبل الأسباب التي جعلت الرئيس يطالب بها؟
سياق التعديلات
حين أعلن الرئيس الموريتاني نتائج الحوار -التي تحولت لاحقا إلى مشروع تعديلات دستورية- بين أغلبيته وبعض أحزاب المعارضة في أكتوبر/تشرين الأول 2016، وشدد بوضوح على أنها لا تتضمن أي بند يسمح بتغيير الدستور لإعطائه فرصة الترشح لمأمورية ثالثة، أو للسماح لزعماء المعارضة الذين تتجاوز أعمارهم الحد الأعلى للترشح للرئاسيات (75 سنة)؛ كان الأمر مفاجأة كبرى.
فالجميع كان يعتقد أن هدف الرئيس من هذا الحوار هو المأمورية الثالثة، كما أن أحد زعماء المعارضة الذين يمنعهم الدستور من الترشح لرئاسيات 2019 (زعيم حزب التحالف الشعبي التقدمي مسعود ولد بلخير) كان من بين مطالبه المعلنة في هذا الحوار: إلغاء الحد الأعلى للترشح.
وكان ولد بلخير هو من أقنع الرئيس بهذا الحوار في مطلع عام 2015 وسعى كثيرا إلى إقناع المعارضة المقاطعة -وخاصة حزب تكتل القوى الديمقراطية الذي ينطبق على رئيسه نفس المانع- بالدخول في هذا الحوار.
لذلك ما إن ظهرت نتائج هذا الحوار خالية من "المطالب الحقيقية" للأطراف المشاركة فيه، وغير مجيبة على سؤال انتقال السلطة في 2019؛ حتى برز السؤال عن الدواعي التي جعلت الطرفين يعدلان عن السعي لحل هذه "المصيبة المشتركة"؟ وتكمن الإجابة على هذا السؤال شيئا ما في أن الطرفين عجزا عن تمرير مطالبهما الحقيقية بسبب قوة الموانع الدستورية، فلجآ إلى الاتفاق على تعديلات دون المتوقع.
ومن أبرز التعديلات المقترحة في الدستور الموريتاني:
- إلغاء مجلس الشيوخ والاكتفاء بغرفة النواب.
- إنشاء مجالس جهوية لتحقيق اللامركزية وتعويض جانب من تمثيل الشيوخ للمقاطعات.
- تغيير العلم الوطني بإضافة خطين أحمرين في أعلاه وأسفله يرمزان للمقاومة الوطنية.
- إلغاء المحكمة السامية التي تحاكم الرئيس في حالة الخيانة العظمى وإسناد مهمتها إلى البرلمان.
دوافع العرض والرفض
واضح أن هذه التعديلات لا تمكّن الرئيس من البقاء في السلطة ولا تضمن له التحكم في من سيخلفه، لكنها تهدف إلى ما يسميه أنصاره "إرساء جمهورية ثالثة"، توصل البلاد إلى مرحلة جديدة من التنظيم الدستوري بعد دستور 1961 (أول دستور بعد الاستقلال)، ودستور 1991 الذي جاء بالتعددية السياسية.
وقد أثارت هذه التعديلات الدستورية معارضة عدد من الأطراف السياسية المحلية:
- أعضاء مجلس الشيوخ من الأغلبية: وقد رفضوها لأنهم يرون أن من أقنع الرئيس بها هو رئيس الحزب الحاكم سيدي محمد ولد محم للتخلص من غريمه رئيس مجلس الشيوخ محسن ولد الحاج، في إطار صراع الأجنحة -الذي أصبح واضحا للعيان- بين أعضاء الأغلبية البرلمانية الداعمة لرئيس البلاد.
- المعارضة غير المشاركة في الحوار: وهي الأكثر عدديا، وقد رفضت مبدأ تعديل النظام للدستور في الوقت الحالي، بحجة أن الدستور لا ينبغي تغييره في أجواء غير توافقية.
- أطياف سياسية ومجتمعية ترفض تغيير العلم لأسباب تاريخية ورمزية.
- كما يمكن طرح احتمال أن تكون هناك أطراف في الدولة العميقة لا تعجبها فكرة المجالس الجهوية المنتخبة، وتتخوف من تأثيراتها على تماسك الدولة من جهة، وعلى نفوذها هي من جهة أخرى.
خيارات الرئيس
برفض مجلس الشيوخ لمشروع مراجعة الدستور يكون المسار الذي راهن عليه الرئيس قد تعرض لنكسة قوية من الناحيتين السياسية والدستورية، فمن الناحية السياسية يشكل رفض الشيوخ -المنتمين إلى الأغلبية- للتعديلات وصول النظام إلى مرحلة متقدمة من تصدع الفريق الحاكم.
ومن الناحية الدستورية يعني الأمر تعطيل مسار التعديل الذي لا مطعن فيه، وإجبار الرئيس -إن أراد الاستمرار في تمرير التعديلات- على اللجوء إلى خيارات أخرى يختلف الخبراء الدستوريون في شرعيتها.
فما هي الخيارات الدستورية والسياسية المتاحة أمام الرئيس الموريتاني للتعامل مع رفض مجلس الشيوخ؟
1- من الناحية الدستورية تُطرح أمام الرئيس وحكومته -إذا قرّرا الاستمرار في سعيهما لتمرير هذه التعديلات- مجموعة خيارات، ولكنها لا تسلم جميعها من خلاف في دستوريتها:
- الخيار الأول: اللجوء إلى استفتاء شعبي لإقرار هذه التعديلات، اعتمادا على المادة (38) من الدستور التي تقول إن "لرئيس الجمهورية أن يستشير الشعب عن طريق الاستفتاء في كل قضية ذات أهمية وطنية".
فهذه المادة تعطي الرئيس حق اللجوء إلى الاستفتاء الشعبي مباشرة، لكن خبراء دستوريين -ومن بينهم مشاركون في كتابة هذا الدستور- يقولون إنها ليست متعلقة بمراجعة الدستور، وإن العموم الذي تحمله هذه المادة تخصصه المادة (99)، التي تقضي -حسب فهمهم- بأن الاستفتاء على الدستور لا بد من أن يمر أولا عن طريق "مشروع مراجعة" يُعرض على غرفتيْ البرلمان.
وقد كان الرئيس يتجنب هذا الخيار لما فيه من تشكيك في دستوريته، حتى إنه لجأ إلى تمريره عن طريق غرفتيْ البرلمان رغم إدراكه أن في الأمر مخاطرة بتعريض "مشروع المراجعة" لرفض الشيوخ، وهو ما وقع بالفعل.
- الخيار الثاني: اللجوء إلى "المؤتمر البرلماني"، أي جمع الغرفتين معا للتصويت على المشروع: وهذا الخيار يضمن من الناحية العددية الحصول على النصاب المطلوب لتعديل الدستور، فالأغلبية المريحة (120 نائبا) التي صوتت في الجمعية الوطنية لـ"مشروع المراجعة" قريبة من العدد المطلوب من الشيوخ والنواب لتمريرها في المؤتمر البرلماني (122)، فضلا عن 20 شيخا صوتوا لصالح التعديل.
غير أن خبراء دستوريين يرون أن المؤتمر البرلماني لا يمكن اللجوء إليه إلا بعد أن تصوت الغرفتان منفردتين على "مشروع المراجعة" وتصادقان عليه بأغلبية ثلثيهما، ويستشهدون بالسابقة الوحيدة التي جرت في تاريخ البلد عام 2012؛ فقد أقرت كل من الغرفتين منفردة "مشروع المراجعة"، ثم اجتمعتا في "المؤتمر البرلماني" وأقرتاه.
- الخيار الثالث: إجراء تغييرات على "مشروع المراجعة" وطرحه من جديد للتصويت، ويتطلب الأمر بالطبع الاستجابة لبعض مطالب رافضي المشروع الأول (مثلا حذف إلغاء مجلس الشيوخ).
وبجانب هذه الخيارات؛ يوجد خيار رابع أكثر جذرية وهو إنشاء دستور جديد وعرضه على الاستفتاء الشعبي، وهذا الخيار لا توجد أمامه موانع دستورية، لكنه من الناحية السياسية يحتاج إلى دعم المعارضة أو أطراف منها، وهو ما لا تتحمس له المعارضة خوفا من أن يؤدي إلى إلغاء القيود على مأمورية جديدة للرئيس.
وعلى كل؛ فلو لجأ الرئيس إلى هذا الخيار لقلب الموازين السياسية والدستورية أمام المعارضة ورافضي تعديل الدستور من الأغلبية رأسا على عقب!
2- أما من الناحية السياسية فإن الرئيس أمامه خيارات عدة، منها:
- الدعوة إلى انتخابات لمجلس الشيوخ سعيا للحصول على أغلبية فيه؛ فالمجلس الحالي يوجد في وضعية غير دستورية منذ عدة سنوات، لأن الدستور يقضي بأن يجدد ثلثه كل سنتين، وهو ما لم يقع -منذ انتخاب المجلس عام 2007- إلا مرة واحدة 2009.
وكان المجلس الدستوري قد أصدر قرارا في فبراير/شباط 2016 يقضي بضرورة تصحيح هذه الوضعية، لكن الحكومة لم تقم بذلك لأسباب منها أنها كانت تنوي إلغاءه كلية، فيمكنها الآن بعد أن وقف في وجه مشروع الرئيس لتعديل الدستور أن تُجري هذه الانتخابات للتخلص من رموز المجلس الذين وقفوا ضد التعديل، لكن هذه الخطوة غير مضمونة النتائج بشكل تام.
- الرضوخ لمطالب الشيوخ، مثل العدول عن فكرة إلغاء المجلس، وإبعاد رئيس حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم وبعض الوزراء الذين يحمّلهم الشيوخ مسؤولية إقناع الرئيس بهذه الفكرة؛ لكن هذه الخطوة ستفسر بأنها ضعف من الرئيس.
- اللجوء إلى حوار سياسي شامل تشارك فيه المعارضة التي قاطعت الحوار السابق، والسعي لإقرار ما يمكن إقراره من هذه التعديلات بدعم من المعارضة (فكرة إلغاء مجلس الشيوخ طرحها أصلا بعض المعارضة)، أو حتى الحصول على موافقة المعارضة على إنشاء دستور جديد.
وفي هذه الحالة على الرئيس أن يقدم تنازلات قوية للمعارضة مثل إنشاء حكومة وحدة وطنية، والتعهد بعدم دعم مرشح في انتخابات 2019.
ومهما يكن تعاطي الرئيس ولد عبد العزيز مع موقف الشيوخ دستوريا وسياسيا؛ فإنه يمكن القول إن الحدث سيلقي بظلاله على الفترة التي تفصلنا عن الانتخابات الرئاسية عام 2019 وعلى هذه الانتخابات نفسها، فالحدث في عمقه أحد إرهاصات إعادة تشكّل القوى الحاكمة بموريتانيا في أفق سعي أطراف فيها لخلافة الرئيس الحالي.