الصمت الرهيب الذي أعقب الصفعة التي وجهها شيوخ الأغلبية الحاكمة إلى رئيس الجمهورية، أربك الطبقة السياسية في موريتانيا، وجاء كسر إذاعة موريتانيا لجدار الصمت قبل التلفزيون أكثر إرباكا وخلطا للأوراق، حين أعلنت الإذاعة تاريخ وتوقيت المؤتمر الصحفي للرئيس يوم الأربعاء على تمام العاشرة ليلا.
الحكومة والحزب الحاكم يشبكون سواعدهم كالتلاميذ في انتظار العقاب أو التوبيخ أو الطرد، ولا أحد يرغب في لفت الانتباه أو الجلوس في الصف الأمامي.
كانت الضربة موجعة، لأنها أعادت إلى الأذهان جميع الذنوب التي اقترفها النظام في حق الديمقراطية من أيام "الترشح المستقل" و "الكتيبة البرلمانية" والحملة على الدستور أيام الفترة الانتقالية, والتصفية التي تعرض لها المقربون من ولد الطايع.
هؤلاء الشيوخ هم نتاج تلك الفترة التي ظاهر السياسة فيها براق وباطنها ظلام دامس. فترة فيها أحكمت السيطرة على مفاصل القرار السياسي والاقتصادي من قبل الجيش. فترة تجددت فيها الطبقة السياسية الحاكمة بسرعة البرق، وظهرت أساليب جديدة في إدارة الصراع السياسي، استخدمت فيها أسلحة غير تقليدية أو غير معهودة في عالم السياسة لأنها مجلوبة من الأنظمة العسكرية، منطق القوة بدلا من منطق العقل.
منطق يكون به الخصم السياسي عدوا، ويكون فيه الحليف خائنا مندسا، والعمل السياسي تكتيكا ومناورة.
هؤلاء الشيوخ نتاج نظام انتخابي فاسد، نظام جعل من المستشار البلدي سلعة تباع وتشترى، نظام يقال إن التصويت فيه سري لكن العارفين بحقيقته يعرفون إن الترقيم في بطاقات التصويت مكن الإدارة من كشف من صوت لمن.
واضح أن هؤلاء الشيوخ يدخلون الآن في مواجهة مفتوحة مع الرئيس وهم من أعلن الحرب عليه ولديهم من الذخيرة ما يكفي لما تبقى من مأمورية الرئيس.
عندما قال ولد عبد العزيز إنه لا ينوي الترشح لمأمورية ثالثة، فقد جزءا كبيرا من قوته، فالناس في بلادنا لا يحبون الآفلين، وفقد البقية بعد تصويت الشيوخ ضده، خالف الشيوخ أوامره وهو في الحكم فما بالك بالشعب عندما يأتي الرئيس بغيره وهو خارج الحكم.
الشيوخ قالوا إنهم لا يقبلون المغادرة وأنهم كتلة متماسكة وأن لديهم حلفاء في الداخل والخارج وذلك هو المصدر الأساسي لقوتهم.
المصدر الثاني لقوتهم هو أنهم كتلة متماسكة مصيرهم مشترك ولديهم حصانة قانونية وشعبية كبيرة.
رئيس مجلس الشيوخ هو الذي يخلف رئيس الجمهورية في حالة العجز، وهذا مصدر قوة آخر.
فكرة تغيير العلم والنشيد فكرة غير موفقة، لأنها بكل بساطة غير قابلة للتحقيق، إلا إذا أردنا أن يكون لكل واحد منا علمه ونشيده، فهذه أمور رمزية لا يمكن فرضها بالقوة.
أما المجالس الجهوية فقد لا تستحق تعديلا دستوريا، لأنها بكل بساطة جهاز تنموي يمكن سنه بقانون تقدمه الحكومة ويصوت عليه البرلمان.
ولا أحد يعترض على مجلس الشيوخ إذا أصلح نظام انتخابه.
لكن ولد عبد العزيز قدم التعديلات على شكل رزمة وأطلق الحوار من أجلها ومول حملة وأقام الدنيا وأقعدها من أجلها.
مصدر قوة ولد عبد العزيز اليوم هو أنه يعرف الخصم جيدا، يعرفهم فردا فردا، ويعرف أنهم لا يستطيعون الصمود طويلا خارج النظام، إنهم كالأسماك لا يستطيعون التنفس خارج ماء السلطان.
اختار ولد عبد العزيز إذاعة موريتانيا لكسر جدار الصمت وأهمل التلفزيون فذلك يعني أنه غاضب من رئيس الحزب الحاكم، وأنه يستشعر خطر انقلاب دستوري وشيك، والانقلابيون يبدؤون الانقلاب دائما بالسيطرة على الإذاعة والتلفزيون.
اختار الرد بقوة، والقوة تعني عدم التراجع، كأني به يكيل الشتائم إلى الخونة بأسلوب ساخر، كما كان يفعل مع قادة المعارضة ويقول إنه ماض في مشروع التعديلات لأنها من أجل الشعب وليست من أجله هو ولن يقبل أن تقهر إرادة الشعب من قبل مجموعة قليلة من الأشخاص يشغلون مناصب انتخابية خارج القانون لأن المجالس البلدية التي انتخبتهم لم تعد موجودة والمجالس التي جاءت بعدها لم تنتخب شيوخا جددا.
ليبقى مجلس الشيوخ، لكن المجالس البلدية لها الحق في انتخاب شيوخ يمثلونها، ثم نعرض عليهم ما شئنا.
من الصعب على ولد عبد العزيز أن يقبل الهزيمة في مسألة التعديلات الدستورية، لكنه في النهاية سوف يهزم، خاصة في مسألة "أحمر الشفاه" على علم الجمهورية، فاللون الأحمر عندنا لا يرمز للشهادة.