مطالب في سبيل خدمة الجمهورية / أحمدو بن لكبيدِ

إنني انتمي لجيل كان شاهدا على تعاقب الأحكام المدنية والعسكرية في بلده موريتانيا، ولا نزال نستحضر مفارقات ونماذج من انتخاباتها المختلفة، أذكر أنه في إحدى الانتخابات انتبه أحد المواطنين إلى أن بطاقة تصويته تحمل اسم امرأة، فما كان من المسؤول الحزبي

 إلا أن همس له: أنت تصوت لرئيس الدولة ولا يهم كيف تصوت له!
شاهدنا الرئيس السابق معاوية الذي بدا في أول أمره يحمل مشروعا حضاريا جمهوريا حسب اجتهاده الخاص كيف تحول من محاربة ما سماه "بلقبيلات"(تصغير قبيلة) قبل أن يتقرب من هذه "لقبيلات" ويحكمها في الشأن العام بعد الانتقال إلى النظام التعددي، وحاجته لدعم الناخبين وتعبئة العامة! وكيف أن هذا – الذي لا أكن له أي ضغينة – قد أفاق من سباته بعد هدير مدافع ولد حنن، فاستخلص الدرس وقرأ جيدا في دلالات الحدث ووعد ببرنامج طموح لمحاربة الفساد ومعالجة الاختلالات السياسية والاقتصادية ..و..، ثم تراجع عن كل ذلك تحت وطأة ضغط اللوبيات ووسوتها وتملقها الخالي من كل مسؤولية، فكان ما كان!
ورأينا قبل ذلك كيف أدى صراع التيارات السياسية وتجاذباتها العقيمة إلى تحريك آلة القمع الرهيبة للدولة في عهد ولد هيداله لتضرب يمينا وشمالا (في تنظيم البعثيين ومن ثم حركة الناصريين)، فقلعت أظفار كثيرة وتعرض خيرة الشباب الموريتاني للجلد والحرق والإذلال! ثم طويت الصفحة بعد سقوط نظام الرجل بدون متابعة! كما طويت صفحات تعذيب الكادحين في عهد المرحوم ولد داداه ومحاضر التعذيب في عهد معاوية!
إن القاسم المشترك بين هذه الأنظمة هو الميل السريع إلى استخدام العنف، فكانت نسب الاعتداء على المواطنين متقاربة بينها، فلا يوجد مواطن موريتاني تقريبا إلا أخذ نصيبه من التنكيل، في شكل سجن أو صفع أو ضربة هراوة أو رفس أو سحل أو كلمات نابية مهينة أو حرمان وتهميش أو كل ذلك مجتمعا! وكأننا في فلسطين حيث لكل مواطن فلسطيني تجربته الخاصة! امتد ذلك إلى كل الفئات والأعمار والمهن، ولم يحترم أية قداسة أو اعتبار، إلى حد تدنيس أكثر الأيام قدسية عند الموريتانيين (ذكرى الاستقلال) بذلك الفعل الشنيع والمؤلم الذي ارتكب فيه ضد عسكريين موريتانيين.
شاهدنا كيف كان يأتي كل نظام ومعه حاشيته وأقاربه ومقربوه والتزاماته، وتبدأ وسائل الإعلام بالتمجيد والتضخيم والتعتيم والقمع والتهويل ..، أذكر أنني استمعت في الماضي مرات ومرات لنشرات إخبارية أو مداخلات لأحد المسؤولين اقتصرت على تكرار اسم الرئيس!
شاهدنا كيف رفع الدعم عن القوة الشرائية للمواطنين بالقضاء على شركة سونمكس، بطلب من البنك الدولي، بل ووجدت الدولة في ذلك فتحا جديدا، في رفع الضرائب على المواد الاستهلاكية الرئيسة لترقيع ميزانياتها والحصول بأسرع الطرق على المبالغ التي تحتاج إليها.
شاهدنا كيف كانت تختلط الأوراق السياسية، فتهاجر كتل وشخصيات من المعارضة إلى الأكثرية أو العكس، بدأ ذلك مع بعض قادة الكادحين وبعض زعماء الحركة القومية الذين تحالفوا مع معاوية المطبع مع اسرائيل، وكذلك مع قادة حركة الحر وغيرهم، واستمر الأمر بعد تحرك 2009، مما جعل الكثير من الناس يفقد إيمانه بشعارات وطنية وإنسانية عظيمة، وبرموز وطنية كانت تعتبر قدوة لجيلها، وهذا أحدث شرخا عميقا في وعي الأجيال المتعاقبة اللاحقة. فمىاتت القيم، وغابت المبادئ،وتكالب الناس على المنافع الشخصية وتزاحم المثقفون وأشباههم والفقهاء على أبواب السلاطين، وأصبحت الغاية تبرر الوسيلة، وتمت رأسملة كل شيء.
ورأينا كيف أن الأحزاب التي كان يفرزها النظام الجديد تتشكل بسرعة البرق، ثم تنطفئ وتتلاشى سريعا كالبالون المنبعج بعد رحيل رأس السلطة(حزب الشعب، الحزب الجمهوري، حزب عادل ..؟).
وبعد منعطف انقلاب 2006 وما بعده بدأ الناس يتفاءلون خيرا، ويتطلعون إلى عهد جديد يبلسم جراحاتهم ويزرع الأمل في نفوسهم، ويصالحهم مع دولتهم وإعلامها وقيادتهم السياسية، خصوصا بعد مراجعة الدستور وتضمينه مواد تعالج منابع الوجع وتسد الباب في وجه الانتكاسة والاختلال، وفي مقدمتها الحد من المأموريات وخلق مسافة بين الرئيس والحزب الذي يواليه، إذ طالما عانت البلاد من هذه العلاقة، فقد كان الرئيس يستحوذ على الحزب ومن خلال ذلك يتم له ولحاشيته وأقاربه الاستحواذ على الدولة والقضاء على روح الجمهورية ومقومات المواطنة الصالحة. وتعتبر البطاقة الموحدة التي جرت بها الانتخابات أهم مكسب، إذ قطعت الطريق أمام المحاولات المخزية للتحكم في حرية تصويت المواطنين.  وقدم الرئيس محمد ولد عبد العزيز بمشروع وطني عريض، ومحاربة الفساد وتبني قضية الفقراء، فأنجزت أشياء كثيرة مهمة بدون شك، ستبقى شاهدة بخير لعهده، ولكن بقيت جوانب معتمة كثيرة  ومظاهر اختلال عديدة وبصمات صادمة من مخلفات الماضي البغيض...
ولعل أسوأ هذه المخلفات هي ظاهرة التزلف والتملق التي لا تعرف حدا، وبدا من الجلي أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز يرفضها ويمقتها، ولكنهم كانوا يفرضونها عليه فرضا، وكان آخرها الدعوة إلى مأمورية ثالثة وكلام بعض النواب مؤخرا عن تأسيس نظام ملكي! وتكرار شعارات وديماغوجيات مقززة كنا نظن أنها قد اختفت إلى الأبد مع نظام ولد الطايع.
ولقد استخلصت من كل ذلك حسب تخريجاتي المتواضعة مجموعة من الحقائق أوجزها فيما يلي:
- إن مصدر الاختلال عائد إلى غياب الوعي والتشبث بالكيان الجمهوري للدولة، المتمثل في دور رئيس الجمهورية وتفرعات الأجهزة التنفيذية والتشريعية والقضائية التي يفترض أنها تقف على مسافة واحدة من كل المواطنين، وتضمن لهم تقديم خدمات خالصة وموحدة في مجال التعليم والصحة والأمن والعمل والعدالة والرقابة والإعلام المحايد وغير ذلك، وتؤمن لهم إتاحة الفرص بطريقة مجردة ومحايدة وشفافة، وتجعل كل مواطن ينال نصيبا ما من دخل دولته. إن الرئيس بما لديه من صلاحيات وآليات وصرامة هو وحده القادر على جعل جهاز الدولة يقوم بهذا الدور البسيط والمتكامل والمصيري، فيتصدى بسرعة لمسببات الانحراف والاختلال، ويضرب على يد المتقوين بوظائفهم وإمكاناتهم لظلم المواطن الضعيف والتعالي على الناس والقانون، وتسخير وسائل الدولة على مرأى من الجميع لخدمة مصالحهم ومحاباة المحسوبين عليهم، ومحاولة التغطية على ذلك بخطاب رنان زائف، بعبارات مكرورة أكل الدهر عليها وشرب، تملأ صدور الجمهور نقمة على الدولة التي مكنت لهم بمناصب لا حق لهم فيها على الإطلاق.
وخلاصة القول في هذا أن هذه المنظومة أو الحكامة هي وسيلة لغاية محددة: خدمة المواطن ورفاهيته، والقائمون عليها انتدبوا لها أنفسهم تطوعا ضمن منافسين كثر؛
-  ويبدأ الانحراف حسب تجارب الماضي بحلول الرئيس محل الشعب، ومن ثم يصبح جهاز الدولة مكرس لخدمته وحاشيته، ويتحول الولاء للجمهورية كمقياس للمواطنة الشريفة إلى ولاء لشخصه وديوانه؛
- وينتج عن ذلك أن كل موظف سام في الدولة يعتقد أن بقاءه مرهون بإظهار التزلف والتملق للرئيس وأعوانه الكبار وقرابته، وإذا حاولت إقناعه أن الرئيس لا يرضى منه ذلك، أجابك أن البطانة التي كانت سببا في تعيينه تنتظر منه مثل هذا الولاء المنحرف، تحت التهديد بعزله! فلو اكتتبت الدولة هذا الموظف حسب الكفاءة أو طبقا لمسابقة نزيهة لكان ولاؤه لها، ولم يخش في الحق لومة لائم، إذ لا منة لأحد في اكتتابه؛
- يضاف إلى ذلك أن بعض قرابة الرئيس خصوصا في دول العالم الثالث والعالم العربي تحاول غالبا بدون علمه وأذنه إرباك عمل الدولة بالتدخلات الفجة والمتعسفة.
ونخلص من ذلك كله إلى ما يلي:
-  إنه لا فائدة من قصر المأمورية أو فتحها إذا لم يعالج اختلال عمل وهدف جهاز الدولة المتحكم في رقاب الناس؛
- إن أي رئيس سيأتي لن ينتظر منه الكثير، إذ لن ينجح في الوصول إلى الحكم إلا بعد تكبيله بالتزامات مسبقة كثيرة، وسيجد أمامه اقتصادا مترنحا ومديونية باهظة. لكنه على الأقل سيطلب منه السهر على احترام قيم جمهوريته وعلى عمل جهازها بشكل صحيح؛
- تعمل كثير من الأسر الموريتانية في الريف ومدن الداخل ونواكشوط جاهدة صابرة على تحصيل قوتها ولا تنتظر شيئا كبيرا من الدولة، فهي تصرف على علاجها وأحيانا على تعليم أبنائها في الداخل والخارج، وتدفع فاتورات المياه والكهرباء إن وجدت، فتجعل الدولة على الأقل هذه الخدمات في متناولها، ومن غير المقبول بل هو من الظلم الغاشم أن تمتد يد السلطان لتدفع لها هذه الأسرة عن مواد استهلاكية أساسية، في الوقت الذي تتحمل فيه أعباء أبنائها البالغين، بينما كان من المنتظر أن تتكفل بهم الدولة وتوفر لهم العمل الكريم؛
- من الضروري أن توفر الدولة فرصا متكافئة لكل أبنائها، فقد لاحظنا كيف كانت لائحة المقبولين – خصوصا – في المسابقات العسكرية – تكتب بينما لا يزال البعض يركض في تمرين الرياضة، بل يكتتب فيها من لم يشارك في المسابقة!
فقد باتت المسابقات هدفا لتدخل نافذين كبار لا طاقة للجان الامتحان على مواجهتهم، فمن ذا الذي سيتدخل لمناصرة الضعفاء الذين لا وسيط لهم ولا نصير سوى رئيس الدولة؟
وفي إطار جدل مراجعة الدستور وفي مستقبل المؤتمر الصحفي الذي سيعقده الرئيس، وفي ظل الحديث عن تنظيم استفتاء شعبي، وهو أمر مكلف ماليا في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة للمواطنين حيث البطالة وكثير من معيلات الأسر تعيش بغربلة الطرق التي تمر بها شاحنات الحبوب، وتوجد منازل كثيرة في نواكشوط لا تتوفر على حنفيات، دون نتحدث عن عدم التأكد من نتائجه، نظرا لافتقاره إلى الجاذبية كما هو الشأن في التعديل الأخير الذي احتوى مواد مهمة للموريتانيين، كما أنه يفتح الباب على مصراعيه كشأن الانقلابات العسكرية أمام تعديل الدستور مع كل نظام جديد، يسرني أن أقدم التساؤلات أو المطالب التالية:
- إننا يا فخامة الرئيس لا نزال بحاجة إلى بناء نظام جمهوري حقيقي، وإلى تأسيس دولة تريح المواطن من عذاباته ومعاناته الطويلة ودورانه في حلقة مفرغة، فإذا كان لابد من مراجعة الدستور فلماذا لا نضمنه مواد ذات فائدة عامة تساهم في إصلاح عمل جهاز الدولة الذي هو مصدر الداء والدواء، مثل:
   - النص بصريح العبارة على استقلالية وسائل الإعلام التي تمولها الدولة وتجريم انحيازها؛
  - ترسيخ ولاء للجمهورية بتجريم انحياز الموظفين أثناء تأدية مهامهم بأي شكل من الأشكال، وتحريم الدعاية المكشوفة عليم أثناء تدخلاتهم ومرافعاتهم؛
- تحريم تعيين أقارب الرئيس في المناصب المؤثرة في الدولة، لأن البلاد عانت طويلا من هذا الأمر؛
- وضع نص صريح في إتاحة الفرص المتكافئة أمام كل المواطنين، وتجريم عرقلة ذلك؛
- إلزام الرئيس الذي هو عماد الدولة ومرجعها بأن يتصرف كرئيس محايد وعلى مسافة واحدة من الجميع لكل الموريتانيين (معارضة وموالاة) وضامن لفصل السلط، وترك السلطتين التشريعية والقضائية تعملان باستقلال تام وحرية، وتجريم أي مواقف إعلامية أو غيرها مناوئة لذلك، حتى لا تتكرر حادثة الشيوخ الذين تعرضوا لضغوطات قوية قبل التصويت وللتهجم والسب بعده، ونحن نفترض أن الشيوخ هم موظفون مكلفون من قبل الشعب بتأدية مهمتهم التي انتخبوا لها حسب قناعتهم دون أن يتعرضوا كشأن كل موظفي الدولة لأي ضغط أو إكراه أو اعتداء جسدي أو معنوي؛
- النص على اعتماد البطاقة الموحدة في الاستحقاقات الوطنية لقطع الصلة بأساليب الأنظمة البائدة ولمنح مصداقية لنتائج التصويت وحماية المواطن من الابتزاز والإكراه؛
- النص على احترام السلم الوظيفي والكفاءة في التعيين والترقية لتعزيز وتقوية الولاء للدولة والعدالة في ممارسة الوظيفة العمومية؛
- النص على مجانية الماء والعلاج للفئات الهشة في المجتمع. 

22. مارس 2017 - 7:30

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا