تمخض يوم 17 مارس 2017 عن رفض مجلس الشيوخ، بأغلبية كبيرة، لمبادرة رئيس الجمهورية الرامية إلى إقرار تعديل دستوري مما أذكى الجدل من جديد حول المساس بالميثاق الذي يشكل مربط القوانين ويعد العمود الفقري للدولة لأنه المرجع في علاقات سلطاتها.. وسعيا للإلتفاف على المسطرة
الشرعية التي أقنعت السلطات (بدليل أنها اعتمدتها وباشرتها حينا من الدهـر) عاد بعض دعاة التعديل لإشهار المادة 38 من الدستور دون الإلتفات لسابقية ذكرها وبغض النظر عن الأسباب التي أدت لتحييدها في الأسبوع الأول من شهر نوفمبر
2016 (1) عندما سكت دعاة التعديل وتجنبوا الرد على العقبات القانونية
المثارة أمام مسعاهم وباشرت السلطات اتباع المسطرة المقـررة (2) وعلاوة
على ما ذكر من وسائل تمكن مطالعتها في المقالات المذكورة يتعين تذكير
المتقدمين للإستنباط إلى ضرورة مراعاة المقاصد الدستورية (3) واعتماد
قواعد التأويل القانونية والشرعية (4) وتجنب القياس مع وجود الفارق (5).
1.
بعيد اعتماد مجلس الوزراء، في دورته المنعقدة يوم 3 نوفمبر 2016، لمشروع
التعديل الدستوري استضاف تلفزيون المرابطون الأستاذ/ محمد الأمين ولد
داهي للتعليق على الحدث عبر برنامج "ساعة حوار" فصدع محرر دستور 20 يوليو
1991 بما كان سطر من وجوب حصول مشروع التعديل على مصادقة ثلثي أعضاء كل
من الغرفتين على الأقل قبل تأتي عرضه على الإستفتاء الشعبي.. وبعد يومين
من ذلك وتحديدا في يوم 5 نوفمبر نشر الأستاذ/ محمدو ولد محمد المختار
مقالا تحت عنوان: "حول مسألة عرض التعديلات الدستورية على الإستفتاء
مباشرة" أبدى فيه إمكانية لجوء رئيس الجمهورية للإستفتاء المباشر على
أساس المادة 38 من الدستور.. حينها دفعتني أهمية المساطر الدستورية، التي
اعتدت تمحيصها ونقدها منذ أكثر من عقد، للإدلاء بدلوي في مقال عنونته:
"تنقيح المنشور حول تعديل الدستور"، نشر يوم 7 نوفمبر 2017 بينت من خلاله
ضعف التأسيس على المادة 38 لاستفتاء الشعب حول تعديل المقتضيات
الدستورية.
2.
وبينما كنا نترقب تعقيبا من دعاة التعديل خفتت الأصوات وأقدمت السلطات
على استدعاء غرفتي البرلمان للمصادقة على مشروع التعديل الدستوري فحسبنا
الجدل منتهيا.. إلا أن الحديث الرسمي عرج على إمكانية العدول عن
الإستفتاء الشعبي والإستغناء عنه باللجوء لمؤتمر برلماني للمصادقة على
التعديلات الدستورية "اقتصادا للموارد وتوفيرا للوقت" مما بدا متناقضا
لأن المصادقة على تعديل دستوري بصورة نهائية بنسبة ثلاثة أخماس هيئة ما،
بعد مصادقة تمهيدية بنسبة أعلى (الثلثين) من ذات الهيئة الناخبة، تعتبر
غير جلية مما دفعني لكتابة "طعن في نتائج تصويت المؤتمر البرلماني" بينت
فيه خطأ اقتباس المادة 101 من دستور الجمهورية الإسلامية الموريتانية من
المادة 89 من دستور الجمهورية الفرنسية دون انتباه المقتبسين لكونها
تتناقض مع ما تتضمنه المادة 99 من الدستور الموريتاني التي تقرر مصادقة
برلمانية تمهيدية لا يوجد مثلها في النظام الفرنسي.. وخلصت المعالجة إلى
أن المنطق القانوني يقضي بكون مصادقة المؤتمر البرلماني على التعديلات
الدستورية إنما تؤهلها للإستفتاء الشعبي قياسا على ما به العمل في
البلدان ذات المقتضيات المشابهة.
3.
ولا بد للمترشحين لاستنباط الأحكام وإصدار الفتاوى من مراعاة المقاصد
وتعني الغايات المبتغاة من الأحكام والقيم والمصالح التي يسعى الخطاب إلى
تكريسها ولعل المقاصد الدستورية تستحق لفتة في هذا الظرف.
إن سمو الدستور وكونه الميثاق الغليظ الذي تستمد منه السلطة شرعيتها
والدولة شخصيتها يجعل مراعاة مقتضياته لازمة ومن واجب رئيس الجمهورية
الذي تناط به حماية الميثاق أن يحمل الناس على احترام مبادئه وأسسه مما
يحتم السهر على عدم زيادة فقرات الدستور بمحو وكشط تفرضه ألأغلبية إذا
كان التعديل لا يروق للكثير من المعارضين لأن الدستور في النهاية عقد بين
جميع المواطنين ويتعين العمل على عدم كسر هيبته الكامنة في النفوس.. لذلك
فمن غير اللائق أن تخوض المقتضيات الدستورية معمعان المنافسة الإنتخابية
كما أـن من الخليق برئيس الجمهورية الترفع عن التموقع الضيق، عندما يتعلق
الأمر بالمقتضيات الدستورية، كي يلعب دوره كحكم.. ولأن من غير اللائق أن
يحدد الشخص لنفسه القانون الذي يحكم تصرفاته مع الغير لما في ذلك من
اتباع الهوى فمن غير الكيس أن يفرض رأس السلطة التنفيذية المقتضيات التي
تناسبه "رغم أنف الآخرين".
4.
وعند ما يتوجب التأويل يتعين على المستنبطين استخدام القواعد المحددة في
القانون الموريتاني ومنها المادة 476 من قانون العقود والإلتزامات التي
تنص على ما يلي: "بنود العقد يؤول بعضها البعض، بأن يعطي لكل منها
المدلول الذي يظهر من مجموع العقد، وإذا تعذر التوفيق بين هذه البنود لزم
الأخذ بآخرها ترتيبا في كتابة العقد." ولا جدال في أن المواد 99 وما
بعدها متأخرة في الترتيب على المادة 38 خاصة وأن من الثابت عند ذوي
الإختصاص كون سريان العقود ونفاذها يدرج في مقدماتها كما يدرج تعديلها
وفسخها في البنود الختامية ومن النشاز تنظيم التعديلات في صدر الميثاق.
ولأن مسطرة التعديل الدستوري مسطرة خاصة فمن اللازم احترام خصوصيتها وعدم
إخضاعها للقاعدة العامة للإستفتاء مراعاة لمبدأ معتمد هو كون الخاص يقيد
العام.
5.
ولأنه لا قياس مع وجود الفارق يتعين أن ينتبه المختصون إلى عدم جواز قياس
النظام الموريتاني على النظام الفرنسي لوجود فارق جلي يتمثل في كون
الدستور الفرنسي يصنف بأنه دستور مرن، يسوغ تعديله بالإستفتاء الشعبي
وبأغلبية ثلاثة أخماس البرلمان، بعكس الدستور الموريتاني الذي أناط
التعديل بالإستفتاء الشعبي بعد تحقق بعض الشروط والواقع أن لكل من
البلدين مصلحة في التعديل تنسجم مع ظروفه الخاصة.
صحيح أن الجنرال ديغول اقترح، بطريقة اعتبرها البعض تعسفية، إجراء تعديل
على دستور بلاده ودفع بالتعديلات للإستفتاء الشعبي سنة 1962 وعندما رفضت
التعديلات لم تسمح كبرياء الزعامة للجنرال بالإستمرار في الحكم فاستقال
لأنه آنس بأنه لم يعد جديرا بقيادة شعب لا تقر غالبيته مبادراته.. ومن
المفارقة أنه بينما نسعى لتدبيج علمنا بخطين أحمرين تكريما لمقاومة
الإستعمار الفرنسي نبارك في نفس المسعى تمجيد الإقتداء بالسنة الفرنسية
في التعديل والزعامة.