في فرنسا التي تأثر بها الدستور الموريتاني، انصرف النقاش حول التعديلات الدستورية من نقاش الجوانب الإجرائية إلى الاهتمام بأبعاد ومحتوى تلك التعديلات، فقد أدى تعاقب التعديلات والتوسع فيها إلى إقرار صريح بالممارسة يقوم على اتباع المسطرة المقررة في المادة 89 من دستور 1958 النظيرة
للمادة 99 من دستور 20 يوليو الموريتاني، بحيث صار ما تم من إعمال للمادة 11 مجرد ممارسة تاريخية يمكن وصفها "بالديغولية "
أما في موريتانيا فيبدو أن المسألة الإجرائية ستحظى باهتمام لم تنله فيما سبق مما عرف دستور 20 يوليو المثبت والمعدل من تعديلات؛ حيث لعبت الظروف القائمة دورا حاسما في تحديد ألية تعديلي 2006 و2012 إذ جاء الأول عن طريق الاستفتاء لغياب الخيار البرلماني بفعل تعطيل المؤسسات " خلافا للمبدأ الدستوري -المادة 40 /5 من دستور 20 يوليو -، والقضائي الذي لا يسمح بتعديل الدستور إذا كان السير المنتظم العادي للسلطات العامة أو إحداها معطلا -قرار المجلس الدستوري الفرنسي رقم 92/312-". وجاء إقرار التعديل الثاني عن طريق البرلمان لعدم جاهزية اللائحة الانتخابية نتيجة لاعتماد البيو مترية أساسا لإحصاء السكان.
وهكذا يثور اليوم نقاش متشنج حول مدى شرعية اعتماد آلية الاستشارة عن طريق الاستفتاء المقررة في المادة 11من الدستور لإقرار التعديلات الدستورية التي لم تمرر عبر مقتضيات المادة 99 من الدستور لعدم حصولها على مصادقة ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ -وإن كان ذلك النقاش في الواقع سبق في مناسبات أخرى-
بداية تتعين الإشارة إلى:
1-الثابت أن حق الأمة في التعديل مسطر نصا واجتهاد وفقها. وقد أكد إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي قدم به لدستور24 /1973/06 في (المادة 28) منه على:" للشعب دائما الحق في مراجعة وإصلاح وتعديل دستوره، وليس لجيل أن يلزم الأجيال اللاحقة بقوانينه "
2-أن سلطة الفعل في المجال الدستوري تظهر بمظهرين:
-السلطة المدسترة الأصلية: يمارسها الشعب أو جمعية تأسيسية ينتخبها بمناسبة إعداد دستور جديد أو حدوث قطيعة مع وضع دستوري قائم بمناسبة ثورة أو انقلاب.
-السلطة الدستورية الفرعية: ولها التعديل والإصلاح والمراجعة وفق الشروط والمساطر المحددة من السلطة التأسيسية الأصلية .
والفرق بين سلطات السلطتين جلي، حيث تحكم الأولى الثانية. ويصعب مبدئيا تصور حجر على الأولى وفق مبدأ سمو الإرادة الشعبية "المادة 2 "
3-لما كان النقاش الدائر يتعلق أساسا بالسلطة المدسترة الفرعية؛ فيتعين الوقوف على أهم الضوابط التي تحكم تدخلها في مجال التعديل حيث تتوزع تلك الضوابط بين الإجرائية والموضوعية والظرفية:
-الإجرائية: وهي محددة نصا في المادة 99/ 1و2
-الموضوعية: هي عدم الطعن في: كيان الدولة -حوزة أراضيها-الصبغة الجمهورية للمؤسسات –الطابع التعددي للديمقراطية والمبدأ الملازم له
- الظرفية: وتتعلق بتعطيل هذه السلطة حال تعطل السير العادي والطبيعي لإحدى المؤسسات الدستورية كما نص عليه في المادة 40 من الدستور، وقياسا في المادة 39 المتعلقة بحالة الاستثناء
4-عموما الظاهر أنه في مواجهة السلطة المدسترة لا تقوم رقابة قضائية مؤثرة؛ إذ المبدأ "أن السلطة التأسيسية كاملة السيادة "، فالمجلس الدستوري "يمارس رقابته على دستورية القوانين النظامية قبل إصدارها والنظم الداخلية للغرفتين البرلمانيتين قبل تنفيذها، وذلك للبت في مطابقتها للدستور"(المادة 1/86) هذا بشكل ملزم، وخارجه "القوانين قبل إصدارها ..." (2/86) إذا أحيلت إليه. وهو في كل ذلك يراقب دستورية عمل السلطة التشريعية مؤسسا قراراته على المقتضيات المكتوبة ذات القيمة الدستورية، حتى لا يوصف عمله بمنازعة المشرع صلاحياته. بالإضافة إلى دوره القضائي في الانتخابات (المواد 83 -84-85)
5-أن جهات الرقابة في مجال تفعيل السلطة المدسترة غير قضائية حيث نجد من بينها:
-رئيس الجمهورية "رئيس الجمهورية هو حامى الدستور ..."(المادة 1/24)
-البرلمان؛ وذلك أن نقاش التعديلات الدستورية يتم من خلال المسطرة العادية للمصادقة التشريعية العادية (المادة 2/99)
- بعض الدول تلعب الجهة التي تمثل المستشار القانوني للحكومة دورا رقابيا أو بعبارة أدق مساعدا على الرقابة كما هو الحال في فرنسا؛ حيث يؤخذ رأي مجلس الدولة في مشاريع القوانين قبل مداولتها في مجلس الوزراء (المادة 39).
-الرقابة الفعلية والفعالة هي تلك التى يمارسها الشعب بنفسه .
6-على ضوء ما تقدم؛ لا يكون من مجال لنقاش قانوني إلا فيما يتعلق بتجاوز النواحي الإجرائية في الذي يقدم من تعديلات، وذلك بمناسبة الحديث عن اللجوء إلى إعمال المادة 38 من الدستور الموازية للمادة 11من الدستور الفرنسي -على اعتبار السجال السياسي خارج مجال اهتمام هذه التدوينة-ولو عمد أحيانا إلى استحضاره للضرورة
وبهذا الخصوص يمكن ملاحظة ما يلي:
أولا: أن مجلس الدولة الفرنسي رأى وبجمعيته العمومية مجمعة في 1961/10/01 أن تعديل الدستور لا يكون إلا من خلال المادة 89 من الدستور، وذلك بمناسبة استعراضه لمشروع التعديل الدستوري الذي قرر ديغول عرضه على الشعب إعمالا للمادة 11. وأعاد نفس الرأي سنة 1969 بنفس تلك المناسبة.
ثانيا: أن المجلس الدستوري الفرنسي لزم صريح ما حدد له من اختصاص لايدخل فيه رقابة غير عمل المشرع، ولذلك رد سلبا على إحالة رئيس مجلس الشيوخ بشأن دستورية تلك التعديلات.
ومع ذلك يمكن القول إن رأي مجلس الدولة ليس ملزما ولم تأخذ به الحكومة الفرنسية بدليل عرض التعديلات على الاستفتاء خارج مقتضيات (المادة 89) سنتي 62 و69.
أما المجلس الدستوري فقد أشرف على الاستفتاء واعترف بالتعديل الذي أقر به، ويمكن القول أو التقول استنتاجا أنه لو كان اعتبر أن (المادة 11) كانت تتعلق بمقتضيات غير ذات القيمة الدستورية، بل بقيمة تشريعية فحسب، لكان أعطى لنفسه حق مراقبة محتوى التعديل المزمع من خلالها قبل إخراجه من دائرة اختصاصه إذا تم عرضه على الاستفتاء.
ثالثا: أن الممارسة الفرنسية تكشف بجلاء الموقف الفقهي بل وحتى السياسي من اعتماد (المادة 11) كآلية لتعديل الدستور بالاستفتاء الشعبي المباشر. ودليل ذلك أن التعديلات الكثيرة والمتعاقبة مررت كلها من خلال إعمال مقتضيات (المادة 89).
والمبررات المقدمة أساسا لذلك كثيرة ومتنوعة، لعل من أقلها ورودا الفرق بين المقصود بالاستفتاء في المادتين حيث هو في (المادة89) تقريري ملزم بينما في (المادة 11) استئناسي. وهو في الأولى على مفصل بينما في الثانية قد يكون على العموميات والمبادئ وهو إذ ذاك قد يحتاج حين صياغته قانونا إلى إجراءات قد تقتضي الاستفتاء عليه. بخلاف الاستفتاء الوارد في (المادة 89)
رابعا: في فرنسا التي تعد مهدا للديمقراطية وبها مؤسسات ديمقراطية راسخة ورغم الذي تقدم، أعملت (المادة 38) وعمل بما أقر بها من مقتضيات. ويمكن إرجاع ذلك لأكثر من سبب:
-المكانة الدستورية التي يحوزها رئيس الجمهورية
-غياب سلطة مخولة قانونا الوقوف أمام (إعمال المادة 11) بسبب غياب الرقابة الدستورية في هذا المجال.
- مكانة سلطان الإرادة العامة وعدم استساغة الحجر عليها، فديمقراطيا يصعب القول في قول الشعب فحيث تنتهى التعديلات مهما كانت مسطرتها بين يدي الشعب فيمكن القول إن كل الطرق توصل إلى روما.
وإذا كان ذلك هو الحال في فرنسا، فيمكن استنتاج ما هو عليه في موريتانيا:
أولا: يحوي الدستور الموريتاني مادتين نظيرتين (للمادتين 11و89) الفرنسيتين وهما (المادة 38 والمادة99) ومهما أثير من حجج واجتهادات بخصوص انفراد المادة 99 في مجال التعديل الدستوري، فلن يكون أكثر حجية من الذى أثاره العدول عن إعمال نظيرتها (الفرنسية المادة 89) في مجال التعديل الدستوري.
ثانيا: ليس بموريتانيا جهة لها اختصاص رقابي على السلطة المدسترة ولو حتى على مستوى الاستشارة.
ثالثا: يتعلق ما يثار حول الإعمال المحتمل ل(المادة38) ليس بمكانة البرلمان ومسطرة المادة 99 بدليل ما أثير ويثار حول تمثيلية البرلمان للفاعلين السياسيين وحتى الطعن في شرعيته، بل برد فعل على رفضه التصديق على مشروع التعديل بالنسبة للسلطة. والعكس بالنسبة للمعارضين لإعمالها.
رابعا: ترتبط بالنقطة الأخيرة مفارقة موريتانية بامتياز حيث يمانع المعارضون في الاحتكام إلى الشعب ويركنون إلى النواب المنضوين تحت الأغلبية الحاكمة.
خامسا: حيث إن محاولة تمرير هذه التعديلات عرف تضاربا في تحديد آليات تعديل الدستور فمن المهم أن تتضمن المراجعة المزمعة ضبطا لهذه الآليات.
وذلك لتضمن المسطرة الإجرائية ريثما يكتمل الحلم بوجود المبدئية الأخلاقية فيما يأتي من تعديلات.