حاجة مجتمع لمجتمع ودولة لدولة وشعب لشعب في أمور مادية - كغذاء، أو بناء، أو سلاح....- شيء مفهوم ويفرضه المنطق، وتفرضه طبيعة الإنسان؛ لأنه قد يحتاج ما ليس عنده وعند غيره. واستيراد شعب من شعب لشيء هو بحاجة إليه جرت عليه العادة وبه استقامة الأمور وعليه دأب الأولون
ومٙن بعدهم، وسيظل الأمر كذلك.
واستيراد مجتمع أو أمة من مجتمع أو أمة بعض ما يحتاج إليه من أمور معنوية - كدين، أو فنون أدبية، وغير ذلك....- شيء لازم تفرضه غريزة الإنسان المحبة للمعرفة، التواقة للأحسن، الطامحة للرقي، الراغبة في جلب التجارِب الناجحة، الشغوفة بالجديد.
وعملية الاستيراد في الأشياء المادية لها شروط لا تكون ذات فائدة إلا بها: أن يكون المورِّد بحاجة للمستورٙد، والمستورٙد يستهلكه المورِّد، والمستورٙد يصلح لبيئة المورِّد، ودين المورِّد وعاداته لا يمنعانه من استعمال المستورٙد، وانعدام أي شرط من هذه الشروط يعني كساد المستورٙد.
والأمور المعنوية وإن اختلفت مع الأشياء في أنها معنوية وتلك حسية فإن شروطها نفس شروطها، ونجاح استيرادها مرهون بتحققها، فلن يستورد مجتمع عاقل - طوعا- دينا أو آدابا ليس بحاجة إليها أو لا تلائم بئته أو يمنعه منها دينه أو تقاليده.
كل ذلك مسلمات، أغبى الأغبياء يفهمها وبها يسلم، لكنا، نحن المسلمون في واقعنا المعاصر لا نعلمه، والطبقة المثقفة منا على الخصوص التي بسببها صارت حصوننا مهددة من داخلها وفي ظل سيطرة سلطة الثقافة الغالبة وفي واقع أبرز ما فيه اغتيال العقل العربي لا تعلمه.
فتجدهم يريدون - والله يأبى ذلك- استيراد حياة الغرب غثها وسمينها! حياة الغرب على مستوى الثقافة! على مستوى الأخلاق! على مستوى الذوق! بل أكثر من ذلك يريدون استيراد كل شيء حتى العقول!! مع أن أي شيء من ذلك لا يصلح لنا ولا يوافق بئتنا ويمنع منه ديننا وعاداتنا.
وإن قلت لماذا؟!
قالوا: أليسوا متقدمين ونحن متخلفون؟! وهم بناة الحضارة ونحن من نهدم؟! وهم العقلانيون ونحن الخرافيون؟! وهم المتحررون ونحن المقيدون؟! ويعملون للحياة لأجل الحياة بعيدا عن الخوف والتخويف من الأساطير!؟ إنهم وقعوا في الوقوع في "مركب النقص" الذي يعتبره مالك بن النبي عدو تقدم الأمم؛ فصاروا مِعولا على دينهم وأمتهم.
إن قلت: ما لنا بما عندهم؟!
رصيدنا الديني والحضاري والأخلاقي والثقافي والأدبي يكفينا ولنا الفخر به وسبق أن جربناه وثبت نفعه وفضله على غيره، وإن كان لا بد من جديد فحسنا ما تريدون، لكن لنأخذ من ثقافتهم ما لا يصطدم مع ثقافتنا وننفي عنه الشوائب ونصبغه بصبغتنا ونجعل عليه طابعنا، ونأخذ منهم تنظيماتهم الإدارية ونكيِّفها معنا، وغير ذلك مما يلائمنا، وفعله نبي الله قبلنا.
قالوا بتصريح أو تلميح: الدين ما الدين؟، وحضارتنا وأخلاقنا وثقافتنا هي رمز التخلف وليس فيهما ما يمكن البناء عليه، فلنترك ذلك كله كتراث مطمور، وندخل فيما غلبت سلطته ولمع نجمه وتوهج نوره، كأن ابن خلدون توصل إلى قاعدة : "المغلوب مولع بتقليد الغالب في زيه ونحلته وسائر أحواله....." من خلال ملاحظتهم واستقرائهم.
الحديث معهم يبلد الأذهان فالقوم قد استوردوا عقولهم كما أرادوا، فعقولهم تفكر كما تفكر عقول أسيادهم، معايير الحسن والقبح عندهم معايير الغرب، والمسلّٙم ما سلمه والمردود ما رده، والذوق ذوقه، لا يعْدون ما قال الغزالي في أمثالهم "يتجملون باعتقاد ما يعتقده أسيادهم"
وصلوا لدرجة يصفها السكران بقوله: "نظرهم في كل شيء بعيون زرقاء" فالإرهاب عند الغرب إرهابهم وقيمه الحقوقية قيمهم حتى إن وجهة نظره عن تاريخهم ودينهم هي التي عندهم ويتبنون، وتناقضاته وأخطاؤه وازدواجية معاييره تتخفى عنهم في شدة الانبهار ببريق حضارته الزائف، ما أبعدهم من محمد إقبال حيث يقول: "لم يستطع بريق العلوم الغربية أن يبهر لبي، ويعشي بصري، وذلك لأني اكتحلت بإثمد مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم"
عسى الله ألا يكِل تقدم أمة نبيه عليهم، وأن يعطيها من يقوم على شأنها من غيرهم، ولنا البشارة بأن شأنهم سيظل في تقهقر، فمتى كان الذيل متقدما؟!