مشهد ما بعد المؤتمر الصحفي / أحمدو ولد أحمد لبَّات

رغم بدايته المتشنجة إلى حد الارتباك إلا أن المؤتمر الصحفي للسيد الرئيس كان في النهاية أحد أكثر مؤتمراته نجاحا في إلقاء بعض الضوء على مناطق ظَلٍّ حرص رأس   النظام  دائما  على تركها معتمة جزئيا أو كليا. بل إن الرئيس انتهى إلى الكلام  فيه بكثير من العفوية إن لم نقل الانطلاق.

و الأمر لا يتعلق فقط بالتعديلات الدستورية موضوع الساعة بل يتعلق أيضا بالمجهول الأكبر الذي ما زال يربك الساحة السياسية بكل أطيافها و خنادقها و يترك الجميع في حيرة من أمرهم ليس فقط في صفوف المعارضة بل أيضا  داخل معسكر الموالاة نفسه.  و هو ما ينعكس في غياب أي رؤية للمستقبل هنا أو هناك لأن الجميع يحاول عبثا استقراء نوايا الرئيس حتى يتسنى له التخطيط على أساسها. فعلاً أكد الرئيس أكثر من مرة أنه لن يترشح لمأمورية ثالثة و بدا أخيرا أنه لا بد أن يكون صادقا في ذلك على الأقل  بالمعنى  الحرفي للكلمة، و لكن الإشارات التي يرسلها من وقت لوقت  و يتبرع بإرسالها هذا المتحدث أو ذاك من الموالاة ( رجما بالغيب فلا أحد ممن تكلم في هذا يعرف على وجه التأكيد برنامج الرئيس) تشير إلى نوع من الاستمرارية في الحضور  بطريقة   ظلت غير واضحة في طبيعتها  و قوتها.
الإنطباع الرئيسي الذي يمكن أن نخرج به بعد متابعة الرئيس في مؤتمره الصحفي الأخير  هو أنه باق و بقوة و أن التعديلات ليست لمجرد العناد و المشاكسة و إنما هي جزء من خطته  لوضع بصمته على البلد و إعادة تأسيسه و من هنا التحول الذي بدأ منذ فترة في خطابه اتجاه الجيل المؤسس و الذي كان وراء السؤال الأول الذي وُجه إليه و بالتالي كان في الصميم حتى و إن تجاوزه الرئيس مع ملاحظة أنه تجاوزه دون كلمة ثناء حتى من باب المجاملة!
الرئيس لم يعد يريد الحديث عن جيل مؤسس لأنه هو سيؤسس كل شيء من جديد بدءا من العلم و النشيد و وجه النظام السياسي الذي لا ندري على ماذا  سيستقر، فمن المؤكد أنه إذا كُتب لبرنامجه النجاح فلن يكون هذا هو التعديل الدستوري الأخير.
لا يمكن تصور أن إصرار الرئيس محمد ول عبد العزيز على تبديد الشكوك حول ضعفه و طمأنة الخائفين في معسكره هو لمجرد إقرار تعديلات دستورية يمكن لأي خليفة أن يمحوها بكل سهولة.
الرسالة الرئيسية  في المؤتمر الصحفي هي أن الرئيس باق و إن كان شكل هذا البقاء غير واضح تماما ، هل سيكون عن طريق اختيار خليفة بمواصفات خاصة أم بواسطة ما يشبه الإنقلاب في اللحظة الأخيرة و هو احتمال في رأيي يبقى دائما قائما.  الملاحظ أن الرئيس كان يراوح في استخدامه  لضمير  المتكلم بين الإفراد و الجمع  و بالتأكيد أن للجيش الذي افتتح المؤتمر بالثناء عليه الدور الحاسم في مشاريعه المستقبلية و في نجاحها أو فشلها،  و أنه حين يسند إلى "نحن" في كلامه  فإنما يعنى نفسه و الجيش.
إذن فالمشهد السياسي بعد المؤتمر الصحفي هو مشهد يمسك فيه الرئيس بالأوراق الرئيسية و يمتلك كامل المبادرة في غياب حياة سياسية بمعنى الكلمة. و مع أن حظوظ نجاحه في اقرار التعديلات الدستورية تبدو للوهلة الأولى غير مضمونة خاصة في ضوء المعارضة القوية التي تواجَهُ بها هذه  التعديلات من قبل شرائح واسعة  لكن تبقى ورقة الإقطاعية الداخلية التي باستطاعته أن يلعبها بقدر كبير من الفاعلية هذا بالإضافة إلى ورقة أخرى قد لا ينتبه لها الكثيرون و هي ورقة ولايات الضفة التي أتوقع شخصيا أن تتعاطف مع التعديلات الدستورية خاصة أنها تؤسس للامركزية أكثرَ عن طريق إنشاء مجالس محلية.
لكن ماذا عن المجهول الأكبر الذي هو بقاء الرئيس بعد مأموريته الثانية؟
بالإضافة إلى القوتين الكبيرتين التي يعتمد عليهما حكم البلاد منذ عقود و هما الجيش و الإقطاعية التقليدية المكونة من الزعامات القبلية و الروحية و اللتين يستطيع الرئيس دائما التعويل عليهما، هناك عاملان جديدان قد يكونان في صالح الرئيس في أي معركة مستقبلية للاحتفاظ بالسلطة : أولهما عامل خارجي فالمناخ الدولي في ظل حكم دونالد ترامب في الولايات المتحدة مختلف جذريا عنه في عهد باراك أوباما أو  أي رئيس أمريكي  آخر، إذ أن  ترامب لا يهتم للديمقراطية و نصرتها بل إن هواه يبدو أقرب إلى الحكام الدكتاتوريين الأقوياء، و من هنا فالمناخ الدولي الجديد هو نسبيا  في صالح أي  انقلاب دستوري يقوم به الرئيس للاحتفاظ بالسلطة طالما أنه على الأرجح لن يحظى بأي معارضة أمريكية تذكر.  العامل الثاني و هو عامل اقتصادي فمع أن البلاد قد لا تواجه عقوبات أمريكية في حالة  انقلاب دستوري إلا أنها على الأرجح ستواجه عقوبات أوروبية و أوروبا هي الشريك الأكبر للبلاد أقتصاديا,   هذا بالإضافة إلى حملات المقاطعة التي لا بد ستواجهها من قبل المنظمات المهتمة بالديمقراطية و حقوق الإنسان،   و بالتالي ستعيش نوعا من العزلة و سيكون عليها أن تكون قادرة على مواجهته اقتصاديا، و أعتقد شخصيا أن الآفاق الواعدة  في المجال المنجمي كبداية استغلال الغاز في أفق 2022 و غيرها قد تشجع الرئيس على انقلابه الدستوري. و هذا المعطى  الاخير في رأيي يشكل عاملا حاسما، فبتحقيق نوع من الاستقلال الاقتصادي للبلاد يستطيع الرئيس أن يجعل من موريتانيا جمهوريته الخاصة أو حتى مملكته  كما في كل الدول الريعية التي يحكم أغلبها أنظمة دكتاتورية لا شيء تقريبا يكدر صفو طمأنينتها.
هذا في رأيي هو ما يبدو أن المشهد السياسي في البلاد يتجه إليه و على الفاعلين السياسيين الذين يأملون احداث تناوب على السلطة التعامل معه بدل الانتظار الساذج حتى يحزم الرئيس أمتعته بكل أريحية و رياضية  بعد انتهاء مأموريته الثانية.
فعلا يبقى  من الثابت أن الرئيس يواجه الآن أكبر تحد له  طيلة هذه المأمورية  أو حتى طيلة فترة حكمه و أن الشعور العدائي اتجاهه  وصل و ينذر بالوصول،  في ضوء الإصرار على التعديلات الدستورية،  إلى مستويات  قياسية. إلا أن دهاءه  السياسي و غياب خصم قوي حقيقي له بالإضافة للعوامل الداخلية و الخارجية المشار إليها آنفا  يجعلان من انتصاره في معاركه المستقبلية احتمالا كبيرا.  هذا طبعا دون أن نلغي احتمال ضربات القدر المفاجأة التي لا يمكن التنبؤ بها خاصة من جانب الجيش  الذي يعمل الجنرال و سيعمل من أجل  بقائه على الطاعة،  و على نجاحه في هذه المهمة أساسا يتوقف نجاحه في مشاريعه المستقبلية كما سيتوقف مستقبل البلاد مرة أخرى.

28. مارس 2017 - 0:58

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا