كانت موريتانيا تعتمد نظامها المحظري الفريد من نوعه بين كل المناهج التربوية في العالم وقد مكنها من ازدهار علمي ومعرفي لا نظير له وخاصة في مجال علوم الدين واللغة العربية . في الوقت الذي شهد فيه العالم الإسلامي بصفة عامة والعربي بصفة خاصة انحطاطا لم يسبق له مثيل.والعجيب
في الأمر أن هذا النظام كان سباقا في تطبيق أحدث النظريات التربوية النشطة (المجموعات الكبيرة – والمستويات المتعدد) وكانت كل فئات الشعب تتبناه وتتعلم عن طريقه. وبعد مجيء المستعمر وسيطرته على البلاد بداية القرن الماضي فتح عدة جبهات لإذلال هذا الشعب الأبي وإخضاعه ’ولعل أعتاها وأشرسها تلك التي وجهت لبيت القصيد عنده ألا وهي- الهوية العربية الإسلامية– .وبعد كثير من المحاولات اليائسة لاقتحام هذا الحصن المنيع أعدت دراسات هدفها التغلغل في المنهاج لإفسادها وخلق قطيعة تامة مع هوية هذا الشعب وثقافته.
وبإلقاء نظرة بسيطة على كل الإصلاحات ألا متناهية التي شهد تها البلاد من ما قبل الاستقلال(1959– 1999) دون أن نهمل المحاولات الخادعة ل-عكاري وأمثاله – (توءمه المدرسة والمحظرة )- ندرك بكل جلاء خطورة المؤامرة ووضوح المكر لدى القائمين علي هذه الإصلاحات .
نظرة المستعمر:
أدرك المستعمر أن المجتمع الموريتاني رغم بداوته يتحصن بثقافة عالية تضمن له التماسك والانتماء والتوحد وتمكنه من خوض مقاومة ثقافية جنباإلى جنب مع–المقاومة العسكرية – بل تستمد الأخيرة شرعيتها من الأولى الأمر الذي مكنهما من التنظيم والتنسيق بين كافة الجبهات وتكبيد المستعمر خسائر فادحة في الأرواح والمعدات .
وتأكد المستعمر أن لاحظ له في التوسع داخل هذا المجتمع- كما حدث في المجتمعات المجاورة – مادام متمسكا بهذه الثقافة . وهنا انصب اهتمامه على الدور التربوي وإعداد أعوان يخدمونه محليا و ينضمون إلى الأذيال التي جاء بها من البلدان الأخرى (حراس’مترجمين’ أعوانا للإدارة....الخ)
بدأ الأعوان في العمل بخطط المستعمر وتنفيذ استراتيجياته ومده بكل ما يحتاج من معلومات عن هذا المجتمع بأدق التفاصيل- مكوناته - عناصره- ديانته - إماراته-قبائله ’ وحتى الصراعات وأيام الحروب بينها. الأمر الذي سهل له طرح الخطط التي تمكنه من البقاء والتحكم في جميع المجالات’حتى بعد الرحيل مطبقا القاعدة الشهيرة ( فرق تسد).
ونظرا لأوضاع المستعمر وما يعيشه من أزمات في ذلك الوقت عالميا ومحليا قرر منح الاستقلال لكل الأقاليم ومن بينها موريتانيا التي سلبها كل شيء(ضياع الهوية واللحمة الاجتماعية والثروات الطبيعية). فصل الإدارة على مقاساته وسلم الأمر لأعوانه بعد أن ضمن عدم استطاعتهم مخالفة النهج الذي تركه لهم مهما أرادوا لأن الألغام تحيطهم من كل جانب .فطبعوا على التبعية والاستكانة والضعف والخنوع وهواجس الخوف من أن تنفجر عليهم هذه الألغام.
بعد الاستقلال :
بعد هبة الاستقلال ارتفعت أصوات الخيرين منادية بالرجوع إلى أصالة المجتمع ومرجعيته الدينية والحضارية التي تضمن له الوحدة والتعايش السلمي في حضن وطنه الأم مدركين أن ذلك لا يتم إلا بتوحيد اللغة وتعريب الإدارة والرجوع إلى المنابع التربوية الأصلية.هنا انفجر أول الألغام وخاصة-الأتني- وتأججت النظرة العنصرية بين مكونات الشعب وامتطى أتباع المستعمر الحدث يقولون إن لغة الدين ليست هي الأصلح لكل الفئات وأنها ستضمن التفوق لفئة على حساب الأخريات .
متجاهلين إن هذا الشعب بكافة أطيافه لم تكن عنده سوى لغة الدين (العربية) وأنها أنتجت علماء أجلاء من كل الفئات فاقوا بعلمهم نظراءهم من علماء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها من أمثال: محمود با- والفوتي - وسي – انياص- جاكيلي- وسيد عبدوالله – وولد بون- ولد الطلبة - وآب- ولمجيدر- الخ...وأن آخرهذه الأمة لن يصلح إلا بما صلح به أولها(أحداث الستينات.) بعدها جاءت إصلاحات خجولة ما هي إلا مسكنات وتضليل ليس لها هدف ولا غاية أكثر من استهلاك محلي(1959-1967-1973-1979-1999) كلها لا تخدم المواطن ولا الوطن.والمواطن الذي تعلم في ظل هذه الإصلاحات لا يكون إلا واحدا من اثنين ممسوخ الهوية أو ضائع لا ينتمي إلى وطن ولا أمة ولا دين تتحكم فيه أطماع (الزبونية- المنفعية- المحاباة -) ميت الضمير والإحساس.هذا هوالضياع هذا هوا لفساد هذا هو الاستلاب هذا هو ضعف المستوي .
والخلاصة هي: لن يكن لنا وطن حقيقي ننتمي إليه ونموت من أجله- لن يكون لنا علم حقيقي نتعلق به ونرفعه بكل فخر واعتزاز- لن يكون لنا نشيد وطني حقيقي نغنيه ونطرب لسماعه- لن نؤمن بالعدالة والمساواة وبحق الآخر- لن نثق بقادتنا وحكامنا ولاحتى بأنفسنا - مادام نظامنا التربوي غير متصالح مع ذواتنا مع خصوصيتنا مع هويتنا مع تطلعاتنا مع حاجاتنا و ولن يتم ذلك ما دمنا لم نجيب على هذه الأسئلة من نحن ؟ ماذا نريد؟ كيف ذلك؟.
يتواصل الحلقة القادمة