الاستفتاء على المراجعة الدستورية: "موضوعية" / د.يعقوب آلويمين

الاستفتاء على المراجعة الدستورية: "موضوعية" المادة 38 و "إجرائية" المواد 99-101

لا شك أن النقاش العلمي لمثل نازلة لجوء رئيس الجمهورية إلى المادة 38 من الدستور بعد فشله في الحصول على مبتغاه في تعديل الدستور عن طريق البرلمان طبقا للمواد 99-101من الدستور سيمثل إثراء هاما للفقه الدستوري الوطني وقد يكون مادة دسمة لبحوث 

علمية في القانون الدستوري بصفة عامة.
غير أن أهمية هذا النقاش مرتبطة بعدم التخندق السياسي للمساهمين فيه. ذلك أنه إذا كان المتحدث في الموضوع متبنيا لموقف سياسي مسبق ويريد تدعيمه وتبريره بالقانون، فعندئذ يفقد النقاش عنصري الحياد والموضوعية العلميين؛ وعلى العكس من ذلك إذا كان متجردا من المواقف المسبقة ومسلحا بأدبيات ومبادئ القانون الدستوري، فسيشكل هذا النقاش فقها دستوريا يمكن الاستئناس به من طرف أصحاب الشأن وفي أي بلد يتضمن دستوره مقتضيات مثل التي ينص عيها دستورنا.
الاستفتاء هو ممارسة للديمقراطية المباشرة، حيث يقول الشعب كلمته مباشرة ويتخذ قراره بنفسه دون وسيط، وهو مظهر من مظاهر السيادة التي يملكها الشعب ويمارسها عن طريق الاستفتاء أو بواسطة ممثليه، وفقا للمادة الثانية من الدستور.
ومن أهم مجالات الاستفتاء هو تعديل الدستور، ولو أخذنا بحرفية القاعدة القانونية القائلة بأن النص القانوني لا يمكن إلغاؤه أو تعديله إلا من طرف السلطة التي وضعته أو سلطة أعلى منها، لكان الاستفتاء هو الوسيلة الوحيدة لتعديل الدستور، وذلك نظرا إلى أنه من وضع الشعب بواسطة الاستفتاء، ولا سلطة بطبيعة الحال تعلو سلطة الشعب.
ولعل الوعي بأهمية تعديل الدستور هي التي جعلت واضعيه يسندون الاختصاص في هذا الشأن إلى الشعب دون سواه، يمارسه إما مباشرة ضمن مجال الاستفتاء الذي يشمل كل قضية تكتسي أهمية وطنية طبقا للمادة 38، أو عن طريق ممثليه كإجراء استثنائي خاص ومعقد، وفقا للمادة 99. 

أولا: موضوعية المادة 38
تنص المادة 38 من الدستور على أن "لرئيس الجمهورية أن يستشير الشعب عن طريق الاستفتاء في كل قضية ذات أهمية وطنية"؛ نحن هنا أمام نص عام يقرر حقا مطلقا لرئيس الجمهورية في أخذ رأي الشعب بشأن أي موضوع يكتسي في نظره أهمية وطنية، ومن هذا المنطلق لا يمكن تقييد النص العام الصريح إلا بنص خاص صريح أيضا، تماما كما فعلت الفقرة الثانية من المادة 99 بشأن المسائل التي لا يجوز عرضها على الاستفتاء مطلقا.
وتمتاز المادة 38 من الدستور بنها جعلت من شخص رئيس الجمهورية مرجعا في تحديد ما يعتبر قضية ذات أهمية وطنية، فالمعيار هنا هو معيار ذاتي (Un critère subjectif) بامتياز، حيث متى رأى رئيس الجمهورية بأن قضية ما تكتسي أهمية وطنية جاز له أخذ رأي الشعب فيها بواسطة الاستفتاء. وقد تكفل الدستور نفسه باستبعاد المسائل التي لا يجوز لرئيس الجمهورية استفتاء الشعب بشأنها، إذ نصت الفقرة الثانية من المادة 99 على أنه "لا يجوز الشروع في أي إجراء يرمى إلى مراجعة الدستور، إذا كان يطعن في كيان الدولة أو ينال من حوزة أراضيها أو من الصبغة الجمهورية للمؤسسات أو من الطابع التعددي للديمقراطية الموريتانية أو من مبدأ التناوب الديمقراطي على السلطة والمبدأ الملازم له الذي يحدد مدة ولاية رئيس الجمهورية بخمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، وذلك طبقا لما تنص عليه المادتان 26 و28 المذكورتان سالفا.
فالمادة 38 لم تطرح معيارا ولم تضع قيدا ولم تحدد مجالا عند ممارسة رئيس الجمهورية لحقه في عرض أي موضوع يكتسي في نظره أهمية وطنية على الاستفتاء؛ ومثل هذه الصلاحيات الواسعة المخولة لرئيس الجمهورية يمكن أن يقوم على سندين:
السند الأول يتعلق بما دأبت عليه الدساتير في الأنظمة الرئاسية، والدساتير التي على شاكلتها في الأنظمة الرئاسوية، التي يجسدها دستور موريتانيا مع دساتير بعض الدول المقتبسة من النظام الرئاسي الفرنسي، بما دأبت عليه من توجه صريح وضمني نحو توسيع صلاحيات رئيس الجمهورية على حساب صلاحيات السلطات الأخرى في الدولة، خاصة من خلال الصرامة في حصر صلاحيات هذه السلطات مقابل المرونة في تحديد صلاحيات الرئيس؛ فمثلا يحدد الدستور في المواد 56-57-58 بصفة حصرية مجال القانون، بينما يقرر في المادة 59 أن كل المسائل الخارجة عن مجال القانون، المحدد حصرا، تدخل تلقائيا في مجال السلطة التنظيمية لرئيس الجمهورية (Le pouvoir reglémentire du president de la république)، بل إن المادة 59 نفسها تسمح لهذا الأخير بأن يُدخل بمرسوم تعديلات على نصوص ذات صبغة تشريعية إذا أعلن المجلس الدستوري أن تلك النصوص تكتسي طابعا تنظيميا. ومن هنا نرى أن لرئيس الجمهورية دائما في الأنظمة الرئاسوية سلطة مرنة تخوله "الاستيلاء" على أكبر قد من الصلاحيات، خاصة عندما يكون هناك غموض في مدلول النص أو إمكانية لتأويله إلى أكثر من معنى.
أما السند المنطقي فيتمثل في أن الأصل في النظام الديمقراطي هو أن يمارس الشعب صلاحياته بنفسه، وهو ما يعرف بالديمقراطية المباشرة. فالديمقراطية المباشرة هي الأصل، وقد تمت الاستعاضة عنها بالديمقراطية التمثيلية – وهي الفرع - بعد أن أصبحت ممارستها غير ممكنة عمليا، أما حينما تكون ممارسة بعض مظاهر الديمقراطية المباشرة متاحة – من خلال الاستفتاء على المواضيع ذات الأهمية الوطنية – فلماذا القول بتقييد الأصل بسبب تعارضه مع الفرع؛ خاصة أن الفرع المعني هنا هو في الحقيقة فرع للفرع، أي ممثلين منتخبين من طرف ممثلين، وقد يكون في موقفه "مغمز" بحكم أن مقترح التعديل يمس وجوده !!
لا شك أن موضوع الاستفتاء الحالي يتعلق بمسائل من الأهمية بمكان، أو بعضها على الأقل، خاصة تلك التي سيتم بموجبها إلغاء الغرفة الأولى من البرلمان، التي لا يتحكم فيها الرئيس بالحل متى شاء !!؛ وكل هذه الموضوعات تكتسي أهمية وطنية ما دام رئيس الجمهورية يراها كذلك بحكم السلطة التقديرية المخولة له دستوريا بهذا الشأن. لذلك فهي تدخل دون شك في مجال المادة 38 من الدستور، غير أن الاشكال الذي يطرح بهذا الصدد لا يتعلق بدخول تلك المسائل في حقل المادة 38 من عدمه، كما ذهب في مناقشة ذلك الكثير من المدلين بدلائهم في هذا النقاش؛ وإنما الاشكال، في نظرنا، هو متى يمكن الاستناد إلى المادة 38 لعرض هذه التعديلات على الاستفتاء، وتحديدا هل يجوز لرئيس الجمهورية التوجه إلى الاستفتاء طبقا المادة 38 بعد استنفاد خيار تمرير التعديلات عن طريق البرلمان طبقا للمادة 101.
تعديل الدستور ليس غاية في حد ذاته، وإنما هو وسيلة لتنظيم – وإعادة تنظيم – المسائل ذات الأهمية الوطنية؛ لكنه يخضع لمسطرة إجرائية معقدة، ويكتنفها بعض الغموض في المنظومة الحالية.

ثانيا: إجرائية المواد 99-101
لم تتضمن المواد 99-100-101 من الدستور أي مقتضي يجيب عن تساؤلات من قبيل "متى يتم اللجوء إلى الاستفتاء" ولا "لماذا يتم اللجوء إلى الاستفتاء"؛ الباب الحادي عشر من الدستور يحدد في الفقرة الأولى من المادة 99 من يملكون الحق في المبادرة بمراجعة الدستور، ويتعلق الأمر برئيس الجمهورية والبرلمان؛ ثم تمضي نصوص هذا الفصل في وضع الإجراءات التي يمر بها التعديل الدستوري، مع إشارة في الفقرة الثانية من المادة 99 إلى المجالات التي لا يجوز أن يطالها أي تعديل.
لقد وضعت المادة 99 في فقرتها الثانية قاعدتين أساسيتين؛ تتعلق أولاهما بضرورة أن يكون أي مقترح تعديل دستوري يتقدم به البرلمانيون موقعا من طرف ثلث (1/3) برلمانيي إحدى الغرفتين، وهو شرط هام لمنح المقترح أكبر قدر من المصداقية ولتحصين النص الدستوري من الجرأة المعهودة لدي البرلمانيين؛ كذلك يتضح من الفقرة أن الثلث المطلوب يجب أن يكون من إحدى الغرفتين وليس خليطا منهما مجتمعتين. أما القاعدة الثانية فتتعلق بأي مقترح مراجعة، أي سواء كان مقدما من البرلمان أو من رئيس الجمهورية؛ ومفادها أن المصادقة عليه لا تتم إلا إذا صوت عليه ثلثا (2/3) كل غرفة على حدة، لكي يتسنى بناء على ذلك عرضه على الاستفتاء.
من هذه القاعدة نخرج بمسلمة أولى هي أن أي مقترح تعديل يتقدم به رئيس الجمهورية يجب أن يصادق عليه البرلمان بثلثي كل غرفة من غرفتيه، ثم بعد ذلك يأخذ التعديل أحد طريقين: فإما أن يعرضه رئيس الجمهورية على الاستفتاء طبقا للمادة 38 أو يمرره عبر المؤتمر البرلماني طبقا للمادة 101.  
وهنا مكمن الإشكال الذي يطرحه إصرار رئيس الجمهورية على عرض مشروع التعديلات على الاستفتاء الشعبي بعد أن رفض مجلس الشيوخ المصادقة عليه. فهل يجوز له ذلك؛ وبعبارة أخرى هل إن رفض البرلمان للتعديل يجعله ملغيا أم أنه يجوز للرئيس استعمال الوسائل الأخرى (الاستفتاء على أساس المادة 38) كخيار بديل بعد فشل الخيار الأول (طريق البرلمان).
إن قراءة ظاهرية للفقرة الأولى من المادة 101 تجيب عن هذا الاشكال بوضوح، حيث تنص على أنه "لا يقدم مشروع المراجعة للاستفتاء إذا قرر رئيس الجمهورية أن يعرضه على البرلمان مجتمعا في مؤتمر"؛ فالظاهر من هذا النص هو أنه إذا قرر الرئيس اختيار طريق البرلمان لتمرير مراجعة دستورية فلا يتم عرض الموضوع على الاستفتاء، لكن الإشكال الذي يثور هنا يتعلق بمدلول عبارة "لا يقدم" الواردة في بداية الجملة الدستورية؛ فهل هي على سبيل المنع، أي أنه لا يجوز لرئيس الجمهورية تقديم مشروع المراجعة إلى الاستفتاء بعد أن قدمه إلى البرلمان، سواء صادق هذا الأخير أو رفض المصادقة على التعديلات؛ وبالتالي يتحدد مصير تلك التعديلات بنتائج تصويت البرلمان فتكون لاغية إذا رفضها وتصبح سارية إذا صادق عليها مؤتمره؛ أم أن عبارة "لا يقدم" واردة بمعنى "عدم الحاجة" أي أنه لا حاجة لإجراء استفتاء شعبي في حالة ما إذا قرر رئيس الجمهورية عرض التعديلات بواسطة الخيار البرلماني؛ وبهذا المعني تصبح التعديلات سارية في حالة مصادقة البرلمان عليها في مؤتمره، وفي حالة رفضه لها في أي مرحلة يكون لرئيس الجمهورية إمكانية اللجوء إلى الخيار الثاني وهو الاستفتاء الشعبي. 
إن رفض البرلمان لتعديلات دستورية مقترحة من طرف رئيس الجمهورية قد يؤدى إلى حالة تصادم بين المادة 38 والمواد 99-101 من الدستور، وذلك عندما يتمسك رئيس الجمهورية باعتبار موضوع معين ذا أهمية وطنية وبالتالي من حقه في أي وقت أن يستشير الشعب بشأنه، في حين تضع المواد 99-101 قيودا على ممارسة هذا الحق قد تصل إلى درجة أنها تشكل حواجز دون ممارسة الشعب بصفة مباشرة لسلطة التي هي ملكه في الأصل وله أن يمارسها مباشرة بواسطة الاستفتاء أو بصفة غير مباشرة عن طريق ممثليه (المادة الثانية من الدستور).
خلاصة
وضعت المادة 38 من الدستور مبدأ عاما وحقا مطلقا لرئيس الجمهورية في استشارة الشعب في كل مسألة تكتسي أهمية وطنية؛ ولكن هذا الحق يمارس وفقا لإجراءات وضوابط صارمة توازي حساسية وخطورة تعديل الدستور حددتها المواد 99-101. وبالتالي فالنصان متكاملان بامتياز لتعلق أحدهما بالموضوع وتعلق الأخر بالشكل؛ ولا ينبغي أن يكون هناك تعارض بينهما، وإذا كان تكريس حق رئيس الجمهورية في استشارة الشعب مسألة هامة، فإن قواعد ممارسة هذا الحق لا تقل أهمية، فالقاضي ينظر في المسائل الشكلية أولا قبل الخوض في الأصل، ولا ينظر في الأصل إذا وجد أن هنالك خلل مخل في الشكل.
ولو كانت الأعمال التحضيرية لإعداد الوثيقة الدستورية متاحة لكان من السهل فهم ما أراده واضعوها من بعض العبارات التي جاءت أحيانا غير مكتملة المبنى، وتحتمل بالتالي أكثر من معني. ويبقى الأمل كبير في المجلس الدستوري عندما يعرض عليه الموضوع في أن يتحفنا بإجابات قانونية شافية عن مجمل الإشكالات التي تطرحها المادة 38 والمواد 99-101. 

3. أبريل 2017 - 9:58

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا