الثورة الليبية من التعثر إلى الانتصار / محمد ولد المختار الشنقيطي

altدخلت ثورة الشعب الليبي خط اللارجعة، فليس بعد المفاصلة الدموية مع القذافي مجال للتراخي أو النظر إلى الوراء. وقد مات نظام القذافي سياسيا ودبلوماسيا، فلم يعد يملك سوى كثافة القوة المجردة. ولا يوجد نظام سياسي في الدنيا يستطيع البقاء اعتمادا على كثافة القوة وحدها.

وكلما أوغل القذافي في المنطقة الشرقية وانتشى لتحقيق تقدم على الثوار، كلما طال خط إمداد قواته، وترجح إمكان تخليها عنه. وليس أمام الشعب الليبي سوى السير قدما في ثورته، إذ لا بديل عن ذلك سوى تسليم الرقاب لطاغية مجروح الكبرياء متعطش للدماء. ومن الواضح أن الثورة الليبية نسيج وحدها ضمن الثورات العربية القائمة والقادمة، نظرا لغرابة أطوار القائد الليبي ودمويته. حقا إن القذافي نوع فريد من القادة: - فهو يحكم باستبداد لا نظير له، ويجمع السلطة التنفيذية والقضائية والتشريعية في يديه.. لكنه يقول إن السلطة للشعب.. - وهو ثائر اشتراكي كادح، يعتز بأنه لا يملك شيئا، وأن راتبه الشهري حوالي 300 دولارا، لكنه وأولادَه يضعون اليد على كل ثروة ليبيا.. - وهو أمير المؤمنين وقائد المسلمين، لكنه يرهب الغربيين من وجود إمارة إسلامية في ليبيا إذا سقط حكمه.. - وهو نجل الصحراء الزاهد الذي يدفع ابنه مليون دولار مقابل أربعة ألحان للمغنية الأميركية ماريا كيري.. - وهو عدو الامبريالية الجلد الذي يفكك برنامج التسلح في بلده ويشحنها إلى الأميركيين، حتى دون غطاء من الأمم المتحدة يحفظ ماء وجهه!! وحينما اندلعت شرارة الثورة الليبية المجيدة تعامل معها القذافي بمنطق قاطع الطريق، فانخرط في إبادة جماعية للمدنيين المتظاهرين، دون رادع من خلُق أو ضمير، أو حس دبلوماسي أو سياسي . وهكذا فرض العقيد المتعطش للدماء على شعبه حربا لم يكن الشعب يفكر فيها ولا أعد لها عدة. فقد انطلقت الثورة سلمية بيضاء، على خطى شقيتيها التونسية والمصرية، لكن العقيد أبى إلا أن يضرجها بدماء الشهداء، في مذابح يندى لها جبين التاريخ، ويخجل منها ضمير الإنسانية. كل هذا مع حرص شديد على محو آثار الجريمة، تفنن فيه العقيد، إلى حد نبش قبور الشهداء، وحمل رفاتهم إلى جهة مجهولة، واختطاف الجرحى من على أسرَّة مستشفياتهم، لقتلهم بعيدا عن الأنظار، خوفا من الإعلام الغربي الذي يفزع العقيد منه، رغم كل عنترياته الجوفاء ضد الامبريالية الغربية. وهكذا اضطرت الجماهير الليبية إلى حمل القتال بما وصلت إليه أديه من سلاح بسيط. وتواجه الثورة الليبية اليوم تحديات عظمى توشك أن تغتالها، إلا إذا انفتح باب من أبواب الدعم والصمود يحول المعادلة لصالحها. ويمكن إجمال هذه التحديات في الآتي: أولا: قعود أهل طرابلس عن التحرك الجدي مع الثورة، بعد أن أرهبهم القذافي بأيام دموية خلال هبَّتهم الأولى. وأهل طرابلس هم قلب الدولة الليبية، إذ يعيش في المدينة ربع سكان ليبيا، وفيها أهم مؤسسات الدولة. ثانيا: تماسك القوة الأمنية التي يحتمي بها القذافي، ويضع أعنتها في أيدي أبنائه وأقربائه. فلم يحدث حتى الآن تآكل جدي في هذه القوات التي هي قلب الحماية والذراع الضارب للدكتاتور، على خلاف الجيش الذي انضم العديد من ضباطه وجنوده إلى الثورة. ثالثا: اختلال الميزان العسكري في الأيام الأخيرة، كما تدل عليه معارك (الزاوية) و(رأس لانوف) وغيرها. وهو أمر متوقع في ظل ضعف الخبرة العسكرية لدى جل الثوار، وانعدام الإمداد بالسلاح الثقيل الذي تحتاجه الثورة حاجة ماسة. رابعا: ضعف الموقف العربي الذي اكتفى بتحويل الأمر إلى الأمم المتحدة، وذلك باب واسع من أبواب التسويف والتواطئ الدولي، وحسابات الربح والخسارة التي لا تمت بصلة إلى مصلحة الشعب الليبي وحفظ دمه وماله. خامسا: التردد الأوربي والأميريكي في دعم الثورة لعدم وجود بديل سياسي مضمون الولاء. فجهاز الدولة الليبية كان مغلقة لحقبة من الزمن، فلم يتوغل الغربيون في بنيته، كما فعلوا مع الحكومات المقربة منهم، ولا عرفوا الكثير عن خريطته السياسية وقاعدته الاجتماعية. وأمام هذه التحديات الجمة تبدو الثورة الليبية اليوم على مفترق طريق خطر، يحتاج قادتها أن يستوعبوه، كما يحتاج ذلك كل الراغبين في ميلاد دولة ليبية جديدة بعيدا عن خبالات القذافي ومهاتراته. ولا يزال من الممكن حصول تحول ستراتيجي لصالح الثورة إذا تحقق الآتي: أولا: أن ينخرط أهل طرابلس في الثورة الشعبية، فهو أقدر الليبيين على ذلك اليوم، خصوصا مع وجود الإعلام العالمي في طرابلس الآن، على خلاف أيام الهبَّة الأولى التي كان القذافي فيها قادرا على ارتكاب مذابح في طرابلس بعيدا عن مراقبة الإعلام. أما إذا استمر أهل طرابلس في الخوف والقعود السلبي فإن الثورة الليبية ستظل في خطر جليل. ثانيا: أن تنشق بعض الكتائب الأمنية على القذافي، وتنضم إلى الثورة، وهو ما سيقلب الموازين العسكرية رأسا على عقب لصالح الثورة. ولا يمكن استبعاد هذا الخيار إذا تصاعد الضغط الدبلوماسي على نظام العقيد وأدرك المدافعون عنه أن لا مستقبل له، وأن مصيرهم -إن لم يتخلوا عنه- سيكون في المحاكم الدولية. ثالثا: أن تدرك القيادة المصرية الحالية أن الاستثمار في ثورة الشعب الليبي مكسب ستراتيجي لمصر وشعبها على الأمد البعيد، إضافة إلى كونه واجبا أخلاقيا وإنسانيا، فتدعم الثوار الليبيين بالسلاح، ولو بيعا. ويمكن تغطية ثمن السلاح من الأرصدة الليبية المجمدة، كما تستطيع دول الخليج التي لا تكن ودا للقذافي تحمل الكلفة المالية لذلك التسليح، تخفيفا عن لاقتصاد المصري المرهق. وهذا أمر ممكن دون إشهار ولا ترويج، فالمعطيات على الأرض أهم الآن من الدعاية الإعلامية. رابعا: أن تدرك أميركا وأوربا أن سلطة ديمقراطية مستقرة أضمن لمصالحها الاستراتيجية من حكم رجل قُـلَّب، تتسم سياساته بالخبال والاستهتار. فالذي يعامل شعبه بمنطق قاطع الطريق، لا يمكن أن يأمنه عاقل على مصالحه. وتستطيع أميركا وأوربا فرض حظر جوي على القذافي، وشن حرب نفسية عليه من خلال رسو سفنها الحربية عند شواطئ طرابلس، وهو ما لن يكلفها دما ولا مالا يذكر. أعتقد أن هذه النقاط هي التي ينبغي أن يركز عليها قادة الثورة الليبية، والناطقون باسمها. وأنصح المتحدثين باسم هذه الثورة في الإعلام بالتخفف من الأقوال السلبية التي تصدر عن بعضهم تجاه هذا الطرف أو ذاك من الأطراف التي خاب ظنهم فيها بسبب تراخيها في دعمهم. فهذا وقت جمع الكلمة، وكسب الناس لثورة الشعب الليبي، وليس وقت تصفية الحسابات السايسية أو إرسال الكلام على عواهنه. إن مسار الثورة الشعبية المتعثر في ليبيا اليوم لا ينبغي أن يعمينا عن رؤية مآلها المضيء.. فلن تضيع دماء الشهداء هباء، ولن نفقد الأمل في هبة شجاعة من أهل طرابلس، ووثبة حرة من العسكريين المحيطين بالقذافي، ويقظة ضمير وكرامة من قادة الدول العربية.. وغير ذلك من أبواب الخير الواسعة. ولله الأمر من قبل ومن بعد

17. مارس 2011 - 14:06

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا