يثور الجدل هذه الأيام حول شرعية لجوء رئيس الجمهورية إلى الاستفتاء الشعبي من أجل تمرير تعديلات دستورية كان قد اقترحها فرفضتها أغلبية من مجلس الشيوخ رغم حصولها على الأغلبية المريحة في الجمعية الوطنية المكونة من نواب منتخبين بشكل مباشر من طرف المواطنين في دوائرهم الانتخابية, في حين أن الغرفة التي رفضت التعديلات يتم انتخابها باقتراع غير مباشر يصوت فيه فقط المستشارون البلديون.
وتهدف التعديلات الدستورية المقترحة بالأساس إلى إلغاء مجلس الشيوخ واستبداله بمجالس جهوية أكثر دراية و اهتماما بالمشاكل المحلية للمواطنين في جهاتهم ومناطقهم الأصلية, وكذلك إلغاء محكمة العدل السامية ودمج اختصاصها في نطاق اختصاص المحكمة العليا, وإلغاء بعض المجالس أو دمجها كالمجلس الاقتصادي والاجتماعي والمجلس الإسلامي الأعلى, من أجل الاقتصاد في الإنفاق وخلق مجالس وهيئات أكثر جدوائية وأكثر عملية من المجالس القائمة حاليا, وأخيرا ولعله الموضوع الأكثر إثارة, تتضمن التعديلات أيضا تغيير العلم الوطني بإضافة خطين أحمرين كاعتراف بما بذلته المقاومة من تضحيات من أجل نيل الاستقلال.
وبغض النظر عن محتوى التعديلات المقترحة, ومدى وجاهتها وعن موقف هذا الطرف أو ذاك منها فانه ينبغي التذكير بما يلي :
يتم اللجوء إلى الاستفتاء عموما في الحالات التالية :
- من أجل المصادقة على مشروع أو مقترح قانون
- من أجل إنهاء مراجعة دستورية
- وأخيرا ومنذ مراجعة 28 مارس 2003 في فرنسا أصبح بإمكان المجموعات المحلية أن تطرح على ناخبيها أي مشروع نص يدخل ضمن اختصاصها المادة 72.
وقد لجأت الحكومة الفرنسية مؤخرا إلى الاستفتاء المحلي بخصوص نزاع حول تحويل مطار نوتر دام دي لاند Notre- Dame-des – Landes تعارضه مجموعة كبيرة من الخضر وحماة البيئة.
لقد أثير نفس الجدل في فرنسا التي نقلنا عنها معظم نصوصنا القانونية وخاصة دستور 1991 موضوع التعديلات , حين لجأ الجنرال ديغول إلى المادة 11 التي تقابل المادة 38 في دستورنا وذلك لإقرار تعديلات تمس النظام السياسي, حيث طرح مسألة انتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع المباشر على الاستفتاء الشعبي, ففي اعتقاد الجنرال ديغول أنه ينبغي في كل مرة كان ذلك ممكنا أن تعطى الكلمة للشعب وقد تأثر في هذا التوجه بحسب المختصين في القانون الدستوري الفرنسي بأطروحات الفقيه الفرنسي الكبير René Capitant, الذي كان من أنصار الأخذ بالمادة الثالثة من الدستور الفرنسي التي تقول إن "الشعب هو صاحب السيادة وهو يمارسها عن طريق ممثليه أو عن طريق الاستفتاء" وهو بذلك يضع على قدم المساواة انتخاب النواب والاستفتاء.
ويمكن القول بأن فترة حكم الجنرال ديغول كانت أكثر الفترات التي استخدم فيها الاستفتاء الشعبي بشكل مكثف في فرنسا.
ويبرر مناصرو اللجوء إلى الاستفتاء الشعبي طرحهم بمجموعة من المبررات لعل أهمها :
1- تفادي الانقسامات والنقاشات داخل الأحزاب السياسية , ففي اختيار الجنرال ديغول للاستفتاء الشعبي 1961 بخصوص مسألة تحديد مصير الجزائر تفادى الرئيس انقسام حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الجديدة الحزب الديغولي حيث تتمسك مجموعة مؤثرة من منتسبي الحزب ببقاء الجزائر جزءا من فرنسا.
2- فيما يتعلق بالتعديل الدستوري 1962 المتعلق بتغيير طريقة انتخاب الرئيس, لو أن الرئيس لجأ إلى مقتضيات المادة 89 لما استطاع تمرير التعديلات نظرا لعدم تأكده من الحصول على أغلبية في المجلسين داعمة للتعديل, خصوصا وأن التعديل يقلص من صلاحيات الشيوخ والنواب وينتزع منهم اختصاص اختيار رئيس الجمهورية.
3- أخيرا من شأن الاستفتاء عموما أن يمكن من التأكد من أن الرئيس لا يزال يحظى بدعم أغلبية الشعب, وهو أمر مرغوب خصوصا وان الرئيس في عهد الجنرال ديغول كان ينتخب لفترة رئاسية طويلة 7 سنوات فهو إذا بحاجة إلى التأكد من دعم غالبية الشعب لقراراته وهذا لا يتحقق إلا بالاستفتاء الشعبي.
ولعل الدستور الجزائري المراجع سنة 2016 كان أكثر وضوحا وتمسكا بروح الدستور الفرنسي 1958 , حيث أفرد فصلا كاملا للشعب هو الفصل الثاني من الدستور : فالشعب هو مصدر كل سلطة , والسيادة الوطنية ملك للشعب ( 7 المادة) وتنص المادة 8 على أن "لرئيس الجمهورية أن يلجأ إلى إرادة الشعب مباشرة".
إن المادة 38 من الدستور التي استند عليها رئيس الجمهورية في التوجه إلى الاستفتاء والتي تقابل المادة 11 من الدستور الفرنسي, والمادة 8 من الدستور الجزائري المنوه عنهما أعلاه تتميز بما يلي :
1- أنها وردت في باب اختصاصات رئيس الجمهورية, فهي إذا اختصاص مطلق لرئيس الجمهورية ولا يمكن فنيا أن ينص عليها في غير محلها, وهي في هذا تتفق مع المادة 31 التي تنص على أن "لرئيس الجمهورية أن يحل الجمعية الوطنية", فقد وردت المادة 31 المتعلقة بحل الجمعية الوطنية تحت باب السلطة التنفيذية, ضمن الصلاحيات المطلقة لرئيس الجمهورية, ولم ترد في باب السلطة التشريعية, تماما كالمادة 38 المتعلقة باختصاص رئيس الجمهورية في الدعوة إلى الاستفتاء "لرئيس الجمهورية أن يستشير الشعب عن طريق الاستفتاء في كل قضية ذات أهمية وطنية"
2- إن المادة وردت بصيغة الإطلاق, أي أنها لم تعدد ولم تحصر المسائل التي يمكن لرئيس الجمهورية أن يلجأ فيها إلى الاستفتاء, فكل المسائل ذات الأهمية الوطنية يمكن أن تكون موضوعا للاستفتاء إلا إذا ورد فيها نص صريح كالمواد المتعلقة بالمأمورية ونظام الحكم التي وردت بالاسم والرقم في شكلية القسم الذي يؤديه رئيس الجمهورية , فلو أراد المشرع أن يحد من صلاحيات رئيس الجمهورية في الاستفتاء لحدد في المادة نفسها المواضيع التي لا يمكن أن تكون موضوعا للاستفتاء.
ويحدد رئيس الجمهورية باعتباره هو "حامي الدستور وهو الذي يجسد الدولة ويضمن بوصفه حكما السير المطرد والمنتظم للسلطات العمومية" )المادة 24(, المسائل التي يود أن يطرح على الشعب في الاستفتاء العام.
إن دستور 1991 المراجع سنتي 2006 و 2012 ينص في مادته الثانية على أن "الشعب هو المصدر الوحيد للسلطة وهو يمارسها بواسطة ممثليه أو عن طريق الاستفتاء".
فمن حق الشعب الموريتاني أن يعبر عن رأيه وأن تعطى له الكلمة ليقول كلمته الفصل في القضايا الوطنية, بدل اختزال رأيه في مجموعة من الشيوخ ينتخبون بطريقة غير مباشرة عن طريق المجالس البلدية و في أغلب الأحيان نتيجة خيارات حزبية ضيقة أو توافقات وتوازنات قبلية وجهوية لا تترك لرأي المواطن العادي فرصة, عكس الاستفتاء الشعبي الذي تذوب فيه الفوارق فليس هناك ناخبون كبار أو ممثلون للشعب فكل مواطن يصوت حسب قناعاته أو توجهاته السياسية.
وأخيرا إن اختلاف المختصين في القانون الدستوري حول الرجوع إلى المادة 38 ظاهرة صحية وهو إعادة لنقاش قديم جدا شهدته الساحة السياسية والقانونية في فرنسا أيام الجنرال ديغول ووصل الموضوع إلى المجلس الدستوري الذي دفع بعدم اختصاصه في مسألة الرجوع إلى الشعب باعتبار أن الشعب هو مصدر السلطة وهو السلطة العليا التي تعلو على المجلس الدستوري نفسه.
فالاختلاف عموما شرعي وهو ظاهرة طبيعية ودليل على التعدد, وهو ليس جديدا على المنظومة الفكرية المعروفة لدينا فقد أنتج المذاهب والمدارس الفقهية المعروفة وكما يقول المثل الشعبي اختلاف العلماء رحمة.