يريد البعض أننا دولة ديمقراطية تتنافس فيها الأحزاب على ضوء البرامج البناءة و خلفية الخطابات السياسية التوجيهية النيرة و الرؤى الاستشرافية البارزة المعالم المحبكة التفاصيل و الآخذة بوسائل التنفيذ العلمية و الفنية، ثم ينسى أن الحال في حقيقة الأمر غير ذلك حيث أن الواقع القابع وراء المظهر
يشي بتدثره بمفاهيم و عقلية ماضي اللادولة مما يجعله أبعد ما يكون عن الديمقراطية و نبل مقاصدها. و لكن الأدهى و الأمر من هذا كله يبقى تقهقر الطبقة المثقفة في البلد و التي من المعلوم أنها في كل تجارب غيره من البلدان الديمقراطية عولت عليها في المرتبة الأولى و اعتمد عليها في المرحلة الموالية لتحقيقها و ترسيخها و ضمان استمرارها.
و لا شك من هنا أن القبول بالحاصل من استشراء "الظلم الصامت" في كل مفاصل حراك البلد هو عادة مكتسبة تعودنا قبولها حتى بات دولة بيننا بطرق و أشكال أصبحت هي بالتالي جزء من مكينا من الطبع العام و التعامل الاعتيادي لا تحارب و لا تصادر. و إن المتتبع لتاريخ موريتانيا منذ الاستقلال لا بد أن يقف على حقيقتين ما زالتا توجهان سياق حكم البلد و معاملة الأنظمة مع الشأنين الشعبي و "الحكاماتي" إن جاز التعبير.
و أما الأمر الأول فتداول الأنظمة اعتبار الإنتماء القبلي لرأس الحكم ـ مدنيا كان أو عسكريا ـ حيث أنه سيتحرك آليا عاجلا أم آجلا بحسب ما تسمح به الظروف في السياق القبلي الذي سيدفعه إلى واجهة الصدارة. و لو أنه لا يجوز الإعلان عن ذلك فإن الوسط الشعبي بقدرته التأويلية الموروثة من عقلية منطق القوة و الضعف لدى المجتمع في بنيته الترابية التفاضلية هو الذي سيسهل للقبيلة و أحلافها و جهاتها و مستويات التمثيل فيها أن تأخذ زمام الأمور عند أول وهلة مع الإحساس الجديد بالمكانة المكتسبة و من خلال خلاياها و نوايا التشاور فيها لتقيم في السياق العام لحراك الدولة منطقها القبلي الجهوي التحالفي حتى يتصدر المرحلة التسييرية لفترة قيام الحكم بأيديها و استتباب الأمر لها.
و لما كانت قبائل قد استطاعت أن تدير اللعبة لفترات طويلة فإن أخرى أخفقت في المد الزمني و إن لم تفوت الفرصة لتنجز لنفسها في المد "الحكاماتي" مثلما عملت الأخريات. و إن المتفحص بإمعان لهذه الفترات لا بد أن يلحظ بصمات الظهور الطافح في صياغة القرار و تدبير الشأن المالي و التوظيفي و التسييري و التوجيهي للسياسات العامة و الخاصة.
و بالطبع فإنه لم ينقض حكم على يد آخر إلا و كان ترك قبل الانزياح بصمات الزعامة التقليدية و الأسر الأرستقراطية و التجار و الطبقة المتعلمة للقبلية و أقرب الحلفاء واضحة للعيان في التموقع داخل الهياكل الإدارية و الفنية للدولة من ناحية، و في الحركة الاقتصادية من خلال عدد الشركات الخدمية و المكاتب الدراسية و المصحات و المدارس التعليمية الخصوصية و العقار الزراعي و السكني المنتج، حتى باتت الأحياء و المصحات و المدارس و المكاتب و الأسواق التي رأت النور خلال تعاقب الأنظمة تتسمى بالقبائل و لوبيات الأحكام المتتالية في إقصاء مرير لأغلب المواطنين و تكريس مشين لمفاهيم تتنافى مع قيم و مرامي دولة المواطنة و القانون.
و بالطبع أيضا أنه قد تولد عن هذه الوضعية عجز البلد الدائم عن أخذ ملامح الحداثة و دفع عجلة التنمية الشاملة التي ارتهنت على الدوام وسائلها و مداخل مواردها الهائلة لتكريس ظلم البعض القليل للأغلبية الساحقة من المواطنين من الدرجة الثانية في سياقات التهميش القسري المعمول به كنظام مكرس منذ الاستقلال و في طياته استمرار غير منكتم لمنطق الماضي.
و أما الأمر الثاني فهو أن ارتهان مفاهيم و قيم الجمهورية كذلك، لسطوة الماضي/الحاضر السيباتي-الرجعي-الإقطاعي و ضعف و اختلال واقع الحال، شكل حائلا دون الالتحام بمضامين الحداثة و استخدام وسائله لبناء الذات الوطنية الخالصة للبناء و المدنية. و ليس غريبا بهذا الانحسار المتعمد أن العمل السياسي ينهج ذات التوجه رغم التغطية الساذجة و الفاشلة على ذلك، و لا أن تُرى التحالفاتُ تنقلب رأسا على عقب على إثر كل مسار انقلابي يحدث من دون أن "تنكسر الجرة" أو "تنطح شاة شاة"، ثم لا يمضي وقت طويل حتى تُشاهد التحالفات و قد تبادلت الأدوار و هي تعمل معا على دهس البلد و تبديد مقدراته و ظلم مواطنيه. و لا يفوت في هذا لسياق أن المهنئين الأول على عتبة الحكام الجدد هم بدون خجل من أزيحوا للتو؛ مَقدم لا يقبل التأخير لسد متعَّمد للباب أمام التَّغيير.
و إن أمكن لسبب أو لآخر استثناء بعض الأحزاب القليلة التي تحمل ضمن مبررات تأسيسها ما يشفع لوجودها بشكل أو بآخر، فإن الجميع في هذه التشكيلات لا يُستثنى في تعويله سرا أ علانية على انتمائه القبلي أو الجغرافي للحصول على نصيب مادي من المال العام أو الوظيفة أو الجاه المُنتج.
و لإن لم يحصل تغيير جوهري في العقلية المتخلفة السائدة و المهيمنة رغم التعلم بأعلى المستويات و الدرجات و مرور أكثر من نصف قرن من الدولة إسما و حيزا ترابيا و من الدساتير و المواثيق فإن الخشية تُصبح أن لا تتهيأ الأمورُ مطلقا لكسب أسباب التدبير العقلانيّ لسلطة "المواطنة" و"الخدمية" القادرة على تجاوز كل الشوائب و الاختلالات المتربصة، و أن يستحيل رسم معالم سلطة الغد المتجددة والمجددة التي تتوخى ربح رهان الحكامة الرشيدة و الديمقراطية.