يشكل مفهوم التنمية المستدامة منعطفا حاسما وتاريخيا لما يقدمه من بدائل عن المسار التنموي القائم الذي يحمل في ثناياه رغم ايجابياته نُذر أزمة تمس شروط الحياة السليمة ومقوماتها استمرارها على الأرض،و تتجلى أبعاد هذه الأزمة في منحيين رئيسيين:
ـ الشروخ الاجتماعية المتفاقمة الناجمة عن اتساع الهوة في فوارق الدخل وعدم شمولية النمو.
ـ التحديات المرتبطة بتهديد المخزون الطبيعي للأرض والعناصر الضامنة لاستمرارية الحياة عليها.
ومنذ سنوات برزت الحاجة إلى جهد تنويري يواكب ويرصد تزايد وطأة هذه التحديات، فقد تتابعت التغيُرات والأزمات، و تتالت تحذيرات العلماء والمتخصصين حول العواقب الوخيمة لترك "الأمور على ما هي عليه"، Business As Usual وبالغ بعضهم في التحذير إلى درجة التشاؤم والشك في إمكانية تلافي الأمور. وشدت وثائق الأمم المتحدة وتقاريرها، والقمم التي دعت إليها، الانتباه بشكل مبكر إلى هذا الأمر وحذرت من المخاطر المرتبطة بإنهاك مخزون الأرض وتغيير سلوكها وتهديد النظم المسيرة للحياة الطبيعية بشكل عام.
ومنذ قمة ستوكهولم سنة 1972 وصدور تقرير التنمية والبيئة و تقرير نادي روما "حدود النمو" ثم تقرير "المستقبل الذي نريد " سنة 1992 المترجم لتقرير ابرونتلاند "مستقبلنا المشترك"، تتابعت القمم العشرية، والتقارير بنفس المضمون ونفس الوتيرة ،في مسيرة شكلت بحق أحد الجوانب المضيئة في تاريخ العمل الأممي حيث توج هذا المسار مؤخرا بتحديد نهائي لما أصبح يعرف بأهداف التنمية المستدامة.
وفي الحقيقة لا ينقص من الاحتفاء بهذه الأهداف الاعتراف بأنها ليست حلا سحريا أو نهائيا للأزمة الكونية ، ولكنها بكل تأكيد تقدم ما يمكن وصفه بحمية سليمة وواضحة لتفادي الغد المظلم الذي تلوح مؤشراته سنة بعد سنة وعقدا بعد عقد، وهي بذلك تمثل الرد الشجاع وبارقة الأمل المضيئة في مواجهة نبرة الخوف والتشاؤم التي بدأت تتعالى بشكل حاد ، بعد أن توارت وكادت أن تختفي منذ رحيل "توماس مالتوس" منذ ما يقرب من قرنين من الزمن.
إن تداخل الأبعاد في مسار التنمية المستدامة أحال جهود التنوير والتعبئة إلى مهام تدريس وتفسير بدل أن تكون مهمة إعلام، وبالتالي لم تنزل قضيتها من بروج التخصص العلمي إلى ساحات الاهتمام الجماهيري. ومع أنه لم يكن من مهام العالم المتخصص أن يقدم شروحه بشكل مباشر للعامة والناس العاديين إلا أن قضية التنمية المستدامة بما تحمله في ثناياها من تشابك الأبعاد الاقتصادية والبيئة والاجتماعية وبما تتطلبه من اطلاع ومواكبة مستمرة للبيانات وفهم للمؤشرات وقراءة للمنحنيات ..إلخ وضع الأمر خارج مجال التناول الإعلامي العادي وفوق طاقته، وبالتالي فإن العلماء مازالوا يقومون بمهام الإعلام بالوكالة، ونيابة عن شُراح لم يتقدموا بعد للقيام بهذا الدور . ومن المؤكد أن التعليم والإعلام سيلعبان في العقد القادم دورا عظيما في هذا المجال، ولكن مهمة التقديم والشرح هي مهام مستعجلة وحالًة لتسديد عملية الانتقال التي نعيشها اليوم.
إن هذه الوثيقة "المانفستو" تقدم الملامح العامة لشارح التنمية المستدامة، وتحدد مجال مهمته وحدودها والخطوط العامة لآليات القيام بها.
ينتمي شارح التنمية المستدامة إلى حقل الإعلام الإستراتيجي، وبالتالي فإن شروح التنمية المستدامة هي أنشطة تبليغ مُمنهجة ومضبوطة من حيث أدوات وطريقة توصيلها وأهدافها، ولكن شارح التنمية المستدامة ينفرد في خصوصية مهمته، ففي جانب يبدو ناقدا لتاريخ من التقدم ومُعريا لمسار بشري منحرف " Anthropocene" غابت فيه الضوابط الضامنة لاستمراره، وفي جانب آخر يصبح مثل مفسر الحمية يؤطر الوعي ويوجه المواقف والسلوك.
يحتاج شارح التنمية المستدامة إلي أن يكون واسع الثقافة مطلعا بشكل رئيسي على روافد التنمية في كل تخصص، متابعا لنشرات المؤسسات الممسكة بكشوف التنمية، قادرا على فهم واستخلاص أرقام النمو ومؤشراته ومقاييسه.
ولابد لشارح التنمية المستدامة كإعلامي أن يجيد مهارات التوصيل وفنيات الأداء، ويوظف آلياته المتاحة و عليه أن يركز بشكل رئيسي على الإعلام المرئي ، ولابد أن يكون أصيلا معبرا عن ذاته، منفتحا، مرتاحا،حسن المظهر، حديثه مفصل وبسيط، مدعوم بالأرقام والأمثلة والصور.
ومن المهم لشارح التنمية المستدامة كذلك أن يكون دارسا لتاريخ الثورة الصناعية ومساراتها وموجاتها عبر العالم، و أن يجيد اللغة الإنجليزية،إن أمكن، فهناك بالدوام فارق زمني ونوعي على مستوى المضمون بينها وبين اللغات الأخرى.
إن شارح التنمية المستدامة هو مبشر بعصر جديد، عصر يطرد فيه النمو ويتزايد، ولكنه نمو شامل لا يترك جزءا من البشر في الخلف، ولا يغير سلوك الأرض وأهليتها للعيش وقابليتها لاستيعاب النمو الديموغرافي المتلاحق، فهو يهيئ العقول للانتقال السلس نحو عصر المدن الذكية، والطاقة النظيفة، وفوارق الدخل الضئيلة.
ومن مهام شارح التنمية المستدامة إرشاد القطاعات المختلفة ، والمجموعات النقابية والطلابية والمنظمات غير الحكومية إلى مواءمة مبادئها ومناهجها مع أهداف التنمية ومساعدتها في إعادة صياغة رؤيتها بما يتناسب مع الهدف أو الأهداف المرتبطة بتخصصها واهتماماتها.
شارح التنمية المستدامة ليس خبيرا اقتصاديا ، وبالتالي فهو لا يضع استراتيجيات النمو ولا ينتقدها ولا يتدخل فيها إلا من حيث اتساقها مع أهداف التنمية المستدامة أومن حيث منهجية عرضها وإبلاغها .
شارح التنمية المستدامة ليس معنيا بالآليات والقواعد الحسابية التي تضبط حركة العناصر الطبيعية، إلا أنه يجب أن يكون ملما ومتابعا لنتائج تلك الحسابات وقادرا على تفسيرها وإبلاغها.
شارح التنمية المستدامة ليس معنيا بنظم الحكم، ولا مستويات تمثيلها للشعوب، ولكنه معني بشكل رئيسي بالحكم الرشيد ومبادئه الجوهرية، وبالخصوص المحاسبة الجيدة، والشفافية التامة، وعدم الإضرار إذ لا مجال للحديث عن التنمية المستدامة بدون حكم رشيد.
وأخيرا فإن هذا المانفستو يزيح أعباء الشرح والإعلام عن كاهل العلماء وخبراء الاقتصاد، ويفتح المجال للإعلام الاستراتيجي للقيام بالدور الحيوي المنتظر أن يلعبه في مجال التنمية المستدامة.
وفي الأخير يوجه نداء إلى كل شخص في العالم تتحقق فيه صفات شارح التنمية المستدامة المبينة في هذه الوثيقة أن يبادر إلى الشرح فورا ، منفردا أو ضمن شبكات خدمة للتنمية المستدامة وتحضيرا لعصرها المشرق المرتقب.
وفي الختام يهيب هذا المانفستو بكافة المؤسسات المهتمة بالتنمية إظهار دعمها وتثمينها لهذه الوثيقة باعتبارها وثيقة تأسيسية في مجال الإعلام التنموي الجديد.