المتابع في هذه الفترة من الزمن لمواقف وتصرفات النظام الحاكم لابد وأن يًصاب بحيرة شديدة، وتزداد حيرته أكثر كلما أطال التأمل في هذه المواقف التي يتخذها النظام الحاكم والتي تبدو في غاية الغرابة والاستفزاز، هذا إن لم نقل بفرضية وجود يد خفية تتولى تحريك الأمور باحترافية كبيرة وبمهنية عالية، وذلك من أجل تعقيدها أكثر تمهيدا لحصول "شيء ما".
وإذا ما اكتفينا بالتوقف مع ما تم اتخاذه من قرارات ومواقف خلال ال24 ساعة الأخيرة، فإننا سنجد أنفسنا أمام ثلاث رسائل محيرة ومستفزة.
الرسالة الأولى
هذه الرسالة تم توجيهها إلى الشركاء في الحوار الأحادي، وتقول هذه الرسالة بلغة سياسية فصيحة وصريحة بأن النظام الحاكم لا يتعامل مع شركائه في الحوار الأحادي بوصفهم شركاء، وإنما يتعامل معهم بوصفهم مجرد "ملحقات سياسية" عليها أن تظل تلهث خلفه دون أن يشركها في أي أمر ذي بال، وإذا لم يعجبها ذلك فما عليها إلا أن ترمي وثائق ومستندات الحوار ومخرجاته في المحيط الأطلسي، أو إذا شاءت فلتحرق تلك الوثائق والمستندات ولتتعوذ بدخانها من شر قصر المؤتمرات ومن شر المادة 38 ومن شرور الشريطين الأحمرين.
ففي خطوة بالغة الاستفزاز، وكأنه قد أريد بها المبالغة في إهانة الشركاء في الحوار الأحادي، قررت الحكومة أن تحدد موعد الاستفتاء الشعبي حتى من دون أن تدعو إلى اجتماع شكلي للجنة متابعة مخرجات الحوار. كان بإمكان الحكومة أن تدعو ـ على الآفل ـ إلى اجتماع شكلي للجنة متابعة الحوار، وذلك من قبل المصادقة على موعد 15 يوليو، كان بإمكانها أن تفعل ذلك حتى تُظهر بأن هناك شريكا سياسيا يتم التشاور معه شكليا على الأقل، ولكن أن تحدد هي لوحدها الموعد دون أي استشارة، وأن يعلم الرؤساء مسعود وبيجل ويعقوب ولد أمين وبلال ولد ورزك بهذا الموعد، كما علم به كاتب هذه السطور، أي من خلال وسائل الإعلام، فإن في هذا لاستهزاء بشركاء في الحوار، كلما بالغوا في التذلل للنظام، كلما بالغ النظام في إهانتهم.
يبقى أن أقول بأن الموعد الذي تم اختياره للانقلاب الدستوري (15 يوليو) لا تفصله عن موعد الذكرى التاسعة والثلاثين لأول انقلاب عسكري إلا خمسة أيام (10 يوليو 1978)، فهل سيكون هذا الانقلاب الدستوري (15 يوليو 2017) بداية لسلسلة من الانقلابات الدستورية كما كان انقلاب العاشر من يوليو بداية لسلسة من الانقلابات العسكرية؟ شيء آخر عن موعد 15 يوليو: إن هذا الموعد الذي تم اختياره سيأتي في أيام صعبة جدا بالنسبة لسكان المدن الداخلية، وخاصة المنمين، والذين من المفترض بأن الحكومة تعول عليهم كثيرا للمشاركة في الاستفتاء والتصويت ب"نعم"، على العكس من سكان المدن الكبرى. فلماذا تم اختيار هذا التوقيت غير الموفق كموعد للاستفتاء الشعبي على التعديلات الدستورية؟ ولماذا تم اختياره بهذا الأسلوب المهين لشركاء الحوار الأحادي؟
الرسالة الثانية
في الوقت الذي يقترب فيه موعد الحفل الفني والسياسي الذي ستنظمه الشيخة والفنانة المعلومة منت الميداح، والذي لاشك بأنه سيكون منبرا للشيوخ سيوجهون من خلاله رسائلهم إلى الأطراف السياسية. في مثل هذا الوقت بالذات قرر رئيس الحزب الحاكم، وعلى هامش لقاء أطر ولاية الحوض الغربي، أن يذكر الجميع بالحملة الشرسة التي خاضها الحزب الحاكم والحكومة ضد الشيوخ، فيما عرفُ حينها بحملة شرح مضامين خطاب النعمة "التاريخي"، وهي الحملة التي تسببت في غضب الشيوخ، والذي كان من نتائجه إسقاط التعديلات الدستورية. لقد وُصِف مجلس الشيوخ في تلك الحملة ـ وعلى لسان الوزيرة الأمينة العامة للحكومة ـ بأنه مجرد "خزان للفساد". واليوم يقول رئيس الحزب الحاكم بأنه مجرد مجلس لتبديد المال العام، وكأنه بذلك القول قد أراد أن يذكر الشيوخ قبيل سهرتهم الفنية والسياسية بأن نظرة الحزب الحاكم والحكومة لهيئتم الدستورية لم تتغير، فهل أراد بذلك أن يزيد من غضب الشيوخ قبيل سهرتهم الفنية والسياسية؟
الرسالة الثالثة
هذه رسالة أخرى جاءت أيضا من رئيس الحزب الحاكم، والذي اعتذر عن استقبال 13 عمدة من ولاية الترارزة، وذلك بعد أن كان قد مناهم باستقبال في مكتبه. العمد انتظروا ـ وحسب ما نشر في المواقع ـ أمام مكتب رئيس الحزب الحاكم لساعتين ونصف، وذلك من قبل أن يخرج عليهم الأمين العام للحزب، ويطلب منهم أن يسلموه مطالبهم ليوصلها لرئيس الحزب الذي منعته مشاغله من اللقاء بهم!!
هذه المعاملة غير اللائقة جاءت بعد أن عبر عدد من هؤلاء العمد عن رفضه لتبني الدفاع عن التعديلات الدستورية، كما عبروا أيضا عن استيائهم من المعاملة غير اللائقة التي يعاملهم بها الوزير الأول.
فهل أراد رئيس الحزب الحاكم بتصرفه هذا أن يقول لعمد ولاية الترارزة بأنهم لن يجدوا من حزبهم الحاكم إلا معاملة أسوأ من تلك التي يجدونها عند الوزير الأول، وأن عليهم أن يستمروا في رفض التعديلات الدستورية، فالحزب والحكومة لن يتعامل معهم إلا بما من شأنه أن يزيد من تذمرهم واستيائهم. يبقى أن أشير في الأخير بأن موقف عمد الترارزة من التعديلات الدستورية كان قد سبقهم إليه عمد الخوض الشرقي، فهل سيلتحق عمد موريتانيا بالرؤساء السابقين وبالشيوخ والشعراء والفنانين ورجال الأعمال في الوقوف ضد للتعديلات الدستورية؟
حفظ الله موريتانيا..