أية شعوذة هذه التي تلقي الكلام على عواهنه، وتخلط الحابل بالنابل والغث بالسمين، دون أن تتجشم عناء البحث والاستدلال بالأمثلة الاجتماعية والتاريخية الساطعة، واستجلاء المفاهيم من طبائع الأشياء لا من ظواهرها. وكأن العفوية والهوى يكفيان وحدهما معيارا لإحقاق الحق وإزهاق الباطل؟!
كلا أيها الإخوة الأفاضل.
ليس كل مدور كعكا. وليس كل شاعر بلاط جارية، أو مربية!
ذلك أن الذي يحدد كنه الشاعر بعد نبوغه ليس انتماءه إلى "البلاط" أو إلى "الشعب" بل طبيعة ما ينتمي إليه. وإن اعتقاد بعضنا أن الشاعر يكون "شاعرا" بقدر ما يبتعد عن البلاط - أي بلاط- وينتمي إلى سواه، هو اعتقاد فوضوي، وجامد، وبعيد كل البعد عن الحقيقة، وعن العلم، وعن تحديد الأشياء انطلاقا من طبائعها؛ بل إن علاقة المنتمَى إليه بالتاريخ الاجتماعي للشعب أو الأمة، هي التي تحدد جوهر المنتمي لا نحن. فإذا كان البلاط رجعيا وفاسدا ومطبعا ومعاديا للشعب فإن شاعره يكون أسوأ من أرذل المومسات. وأما إذا كان البلاط بلاطا وطنيا وتقدميا يساير التاريخ، فبنى الجيش والوحدة الوطنية، وأجلى الصهاينة عن أرضنا الطاهرة، وفرض سيادتنا الوطنية وحرية قرارنا، وحارب الفساد والإرهاب والهجرة، ويسعى في خير وعزة بلاده ويسخر طاقاتها لفائدة شعبها فيبني ويعمر ويشق الطرق ويشيد المدارس والمعاهد والمستشفيات والمصانع ويفجر الأرض عيونا وسدودا، ويملأ السماء شموسا، ويحقق الأمن ويحمي الوطن، ويصون الإسلام والعربية والحريات العامة وكرامة الإنسان، فإن شاعره يكون أكرم وأنبل من يمشي على قدم.
وكمثال على ذلك، سنبدأ بسيرة أقدم شاعر بلاط خلده التاريخ وهو هوميروس (850 ق. م) فقد كان يعرف عنه "حفظه للشعر وإنشاده في بلاط الأمراء بوصفه رئيسا للمنشدين". وقد "استطاع هوميروس تخليد نفسه كأحد الآلهة الشعرية من خلال منحوتتين شعريتين تعتبران من أهم القصائد الملحمية هما الإلياذة (15535 بيتا) والأوديسة (12200 بيتا)". وهذا مطلع الإلياذة حسب ترجمة سليمان البستاني لها إلى العربية:
ربة الشعر، عن أخيل ابن فيلا ** حدثينا، واروي احتداما طويلا
ذاك كيد عم الإخاء بلاه ** وكرام النفوس لاقت أفولا
فهل حط من قدر وقيمة وإبداع هوميروس أو نال من جمال وروعة الإلياذة والأوديسة كونه شاعر بلاط أخيل ابن فيلا وغيره من أمراء الأخيين ولسان صدق المرحلة البطولية في تاريخ اليونان ومسطر ملحمة حرب طرواده؟
يقول هاني رجب: "لا شك، مهما اختلف النقاد والمؤرخون حول هذه الشخصية الجدلية العظيمة، في أن هوميروس سيبقى صورة مضيئة في تاريخ الإغريق، ورمزا ثقافيا وإبداعيا تنهل منه الأجيال الشعرية والأدبية. لقد خلد شاعر الإغريق الأول كأيقونة رائعة للشعر النابض بالحياة والمليء بالغموض".
ومن بعد هوميروس، لنا إسوة حسنة في شاعر ظهور الإسلام حسان بن ثابت الأنصاري، شاعر بلاط رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا الشاعر الذي كان قبل الإسلام شاعر بلاط الغساسنة الذي قال فيهم أروع ما حفظته واستحسنته ذائقة أمة البيان:
إن التي ناولتني فرددتـــــــــها ** قُتلـــــــــتْ قتلتَ فهاتها لم تقتل
كلتاهما حلب العصير فعاطني ** بزجاجة أرخاهــــــــما للمفصل
لله در عصابة نادمتــــــــــــهم ** يوما بجلق في الزمــــــان الأول
يغشون حتى ما تهر كلابــــهم ** لا يسألون عن السواد المــــــقبل
بيض الوجوه كريمة أنسالــهم ** شم الأنوف من الطـــــراز الأول
الملحقون فقيرهم بغنيــــــــهم ** المشفقون على اليــــــــتيم الأرمل
يمشون في الحلل المضاعف نسجها ** مشي الجمال إلى الجمال البزل
أبناء جفنة حول قبر أبيـــــهمُ ** قبر ابن مارية الكريم الأفــــــضل..
كان من حسن حظه أن أدرك البعثة وآمن بالرسول الكريم وجرد صارمه البتار دفاعا عنه، وامتاح من بحره الفياض ينافح قريشا عن الرسالة الجديدة التي بهرت الكون وغيرت وجه التاريخ، وعن صاحبها عليه الصلاة والسلام. وقد قارع أبا سفيان ابن الحارث فأفحمه في قصيدته التي مطلعها:
عفت ذات الأصابع فالجواء ** إلى عذراء منزلها خلاء
ففيها يقول:
هجوت محمدا فأجبت عنه ** وعند الله لي ولك الجزاء
أتهجوه ولســـت له بكفء ** فشركما لخيركما فــــــداء
عدمنا خيــلنا إن لم تروها ** تثير النقع موعدها كـــداء
يبــارين الأسنة مصعدات ** على أكتافها الأسل الظماء
تظـــــل جيادنا متمطرات ** يلطمهن بالخُـــــمُر النساء
لساني صارم لا عيب فيه ** وبحري لا تكــــدره الدلاء
ومن روائع سيرة شاعر بلاط الإسلام الذي دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم أيده بروح القدس» ونها الإمامَ عليا عن مواجهته بقوله: «اتقوا ألسنة الشعراء» كونه ظل وفيا للغساسنة بعد الإسلام، ومدح ملكهم جبلة ابن الأيهم حتى بعد ارتداده عن الإسلام ولجوئه إلى قيصر الروم. فقال فيه لما سلمه الخليفة عمر - رضي الله عنه- صلة جاءته في البريد من عند جبلة:
إن ابن جفنة من بقية معشر ** لم تَغْذُهُم آباؤهم باللـــــوم
يعطي الجزيل ولا يراه عنده ** إلا كبعض عطية المذموم
لم ينسني بالشام إذ هو ربها ** كلا ولا متنـــــصرا بالروم.
وهناك أمثلة رائعة أخرى من شعراء البلاط يوم كان العرب المسلمون رسل الهدى والعدل والحضارة إلى البشرية قبل انحطاطهم، سنتطرق إلى بعضها؛ مثل جرير في بلاط الأمويين، وأبي تمام في بلاط العباسيين، والمتنبي في بلاط الحمدانيين، وابن زيدون في بلاط ابن جهور ومعاصريه من ملوك الأندلس. وهناك آخرون غير عرب ككرماني الذي لم يمنعه كونه في بلاط تيمور لنك من الجهر بالحق في مواجهة الملك؛ والشاعر العظيم طاغور الذي كان يقول رغم بلوغه قمة المجد، ورغم حصوله على جائزة نوبل التي قلما منحت لشرقي:
"يا رب ساعدني على أن أقول كلمة الحق في وجه الأقوياء، وساعدني على أن لا أقول الباطل لكي أكسب تصفيق الضعفاء".
يتبع