شهدت يوم الثلاثاء فصلا من فصول "ثورة موريتانيا" التي ينسجها الشباب الموريتاني الناضج منذ أكثر من شهر، و ينسج معها "أكفان" ثلاثة عقود من حكم العقداء والجنرالات أصحاب الأحذية الخشنة، والعضلات المفتولة والعقول الصغيرة...
لقد كان الثامن مارس عيدا للشباب الموريتاني –كما كان عيدا للنساء- لقد أثبت الشباب الموريتاني في الميدان أن له أهدافا كبيرة لا تشغله عنها مناوشات رجال أمن "لا يعرفون دورهم... ولا يقوون على القيام به" وهو ما أثبتته مشاهد يوم أمس عندما اشتبك رجال الأمن مع "أطفال صغار" قرب بنك "باسيم" وكان الأطفال يصيحون "لقد أفسدتم اللعبة أردناها سلمية ورفضتم، ولكم ما أردتم"، ومع أنهم أطفال لم يبلغوا العشرين من العمر فقد طاردوا أكثر من عشرين شرطيا حتى أعادوهم لساحة ابلوكات. لقد كشف "ثلاثاء الصمود" عن ارتباك كبير في أجهزة الأمن بدء بالميدانيين فقد رأيت مفوضين في الميدان في حالة ارتباك، ويسألون أي مدني يقترب منهم هل أنت شرطي، ربما بحثا عن مصدر أخبار عن قوم لا يخفون أي شيء، بل حضروا بشحمهم ولحمهم وفي ساحة مفتوحة – حتى لكاميرات المراقبة- أحرى العيون الشاهدة، كما وصل الارتباك رأس النظام الذي ولى وجهه شطر أديس بابا في تجاهل واضح لمشاكل الداخل، ودفنا للرأس في الرمال عنها، لكن الرمال في غالبها متحركة، وقد تتركه مكشوفا إن لم يسرع الخطى في الوجهة الصحيحة، وهي الإصغاء لمطالب الشباب وإفساح الطريق أمامهم للوصول لأهدافهم المشروعة. على رأس النظام أن يرتب أولوياته، وأن يدرك أنه غير مؤهل للوساطة في الأزمة "الإفوارية" لأن حضوره –ببساطة- يعطي اغباغو رسالة اطمئنان، ودفعة معنويات، ويدفعه للتعنت أكثر، والإصرار على "نتائج انتخاباته" التي زكاها المجلس الدستوري، وهو المخول بإعلان النتائج النهائية، كما يمكن اغباغبو أن يزور أحياء الصفيح في عاصمته – إن كانت موجودة- ويطلق وعودا خلّب، ويعلن حملات على الفساد، وقد يصبح يوما ما وسيطا في أزمة أخرى من أزمات إفريقيا التي لا تنتهي إلا لتبدأ. لقد أثبت "ثلاثاء الصمود" أن النظام نفض يديه من "مبادرات معاونيه السياسية"، فمع أن الوزير الأول في النظام كان يقدم مبادراته السياسية بالتوظيف وتعميم الخدمات في سعي واضح لنيل تهدئة –لا تتوفر موضوعيا- إلا أن رأس النظام قرر السير في طريق آخر، فكانت أجهزة أمنه وبأعداد ضخمة تحاصر ساحة ابلوكات منذ ساعات الصباح، وتفرق المتظاهرين في اتجاه الأسواق ومجمعات البنوك ومساكن المواطنين... علهم يعيثون فيها فسادا يبرر اتهامهم "بأنهم عصابات إجرام وغوغائية" لكن الشباب ظل مصرا على أهدافه الشريفة، منزها جهوده عن الضياع في الأمور التافهة، إلا في استثناءات يسيرة، تقول التجربة إن أفراد الشرطة المندسين بين المتظاهرين لم يكونوا بعيدين عنها. لقد كانت مشاهد "ثلاثاء الصمود" صارخة في أن الشباب الموريتاني تغير كثيرا، وأنه قادر على تجاوز النظام بكل مكوناته، في طرحه وفي مطالبه، في أساليبه وفي تكتيكاته وخططه، في كل ألاعيبه القديمة مع معارضيه، لقد تجاوز الشباب كل ذلك واستفاد من طريقة تعامل الأنظمة الراحلة مع الشباب الثائر ضدها، ولن تجدي اتهامات "الكنتاكي والدعم الخارجي، ولا القاعدة، ولا الجرذان، ولا الحبوب المهلوسة" في التشويش على نضاله السلمي المشروع ، وعلى أهدافه السامية، وعلى سعيه لنيل مطالبه من نظام يفكر رجاله بعصيهم وليس بعقولهم، ولا يستفيدون من أخطاء غيرهم، ولا يستطيعون استيعاب الأحداث "وفهمها" قبل فوات الأوان، كما أنهم غير قادرين على "الوعي بتطلعات" الشعب قبل أن تتجاوزهم... كما أن على أحزاب "التنديد والشجب والتفهم والتسجيل" أن توفر حبرها وأوراقها فقد يكون دورها في أماكنها الأصلية أجدى، كما أن هذه البيانات في الواقع وعلى الأرض لم تنفع صديقا ولم تغظ عدوا، وهذه الأحزاب في النهاية جزء من المشكل وليست جزء ا من الحل، لأن أغلبها أكثر دكتاتورية واستبدادا حتى من الأنظمة الساقطة والتي هي على وشك السقوط، فقد كان لهذه الأنظمة ميدان مناورة، ومناصب يساوم عليها في حين أن رؤساء هذه الأحزاب متمسكون بكل شيء... ومع ذلك –ياللعجب- يدعون للتناوب والتعديدية، ويسجلون المواقف وينددون بالاستبداد والقمع... موريتانيا دخلت مساء "ثلاثاء الصمود" على خط جديد، ونقطة نهايته ليست بعيدة، والشباب هم من سيوجه تلك البوصلة... لكن تعاطي النظام معها سيدفعها سريعا أو يبطئ من مسيرتها لكنه –في كل الأحوال- لن يستطيع إيقافها، وعلى "من يفهم" استيعاب ذلك وفهمه، وعلى من "يسجل، أو يتفهم، أو يندد، أو يشجب" استخدام ما يراه مناسبا من تلك العبارات.