لماذا تأخرت مبادرات أهل الحوض الشرقي لدعم التعديلات الدستورية حتى الآن، و سبقهم إخوانهم في لعصابه و آدرار- على غير العادة -؟ و هل الحراك الرافض للتعديل الدستوري في الحوضين ينذر بتمرد قبلي على سلطة الدولة ، وهل للأمر علاقة بتخلي السلطة عن نظام المحاصصة، والتوازنات التقليدية المعمول بهما منذ استقلال الدولة؟ أم أن الأمر مجرد شحنة سالبة من الغضب والاستياء يغذيها صراع الأجنحة و التحالفات داخل هذه المجموعات؟
يرى الكاتب فيليب مارشزين في كتابه " القبائل، الإثنيات و السلطة في موريتانيا" أن الأجيال الموريتانية المتعاقبة مارست العمل السياسي انطلاقا من قيم قبلية و جهوية و فئوية، ظلت حاضرة لدى النخب السياسية، وقد تمسكت الأنظمة السياسية المتلاحقة بهذه القيم و الممارسات، حيث جعلت من المحاصصة و التوازنات القبلية و الفئوية أداة استقرار، بدل اعتماد آليات و أساليب في الحكم تفضي إلى استقرار التنمية و العدالة".
و يعتقد الكاتب أن " المحاصصة تبقى في نهاية المطاف – و إن كانت حققت و ستحقق لبعض الحكام البقاء لفترة من عمر الدولة، و لبعض الموظفين ممن ساحوا في نعمها وزراء أو مدراء -، تبقى لغما يهدد وجود الدولة، و وحدة شعبها"، ذلك أن المحاصصة حسب اعتقاده تـُغيب الأساليب الكفيلة ببناء دولة حديثة ،وتصنع بيئة تنمو في أكنافها المسلكيات المعيقة للتنمية، كالرشوة و المحسوبية و الزبونية، بحيث تصير الوظائف السامية، و مراكز القرارات ذات التأثير على مصير الدولة قطعا من الكعك يوزعها الحاكم، وفق مبدأ مقايضة الولاء بالسلطة أو النفوذ، إذ لا عبرة بالكفاءة.
و يستنتج الكاتب أن المحاصصة السياسية محاصصة في الاقتصاد و الثروة بشكل عام.
و إذا كان البعض يتهم النظام القائم في موريتانيا بصناعة طبقة جديدة من رجال الأعمال، و تضييق الخناق على أخرى، فإنه عجز في نفس الوقت عن تجديد الطبقة السياسية رغم دعواته المتكررة إلى ذلك، مما سمح بصعود بعض الشخصيات و خاصة في منطقة الحوض الشرقي، مستفيدة من رحيل زعامات تقليدية غيبها الموت خلال السنوات الأخيرة كانت كلمتها مسموعة، و تأثيرها محسوسا، من أمثال الشيخ حمه ولد الشيخ سعدبوه، و الشيخ محمد لمين،أحبيب ولد النيني و آخرين، و تقاعس شخصيات أخرى عن العمل السياسي تحت ضغط التقدم في السن، هذا بالإضافة إلى تنامي نفوذ العسكر في مجال التعيينات والحصول على المناصب السامية و الامتيازات، الأمر الذي عزز من شعور معظم الأطر بالتهميش رغم ثقل وزنها القبلي أو الانتخابي.
إن تضافر هذه العوامل ولد حالة من الاحتقان ربما تفسر التصعيد الأخير و نبرة التهديد التي هيمنت على خطابات بعض المجموعات، و تقاعس أخرى عن التبرء من المتمردين فيها ممن عارضوا التوجهات الأخيرة للسلطة جهارا نهارا.
و لعل تخلي النظام عن العزف على وتيرة المحاصة عندما أقال أحد أبرز أطر " أجمان" و ساستها قبل فترة قصيرة، زاد من نقمة هذه المجموعة، و التي ظلت لفترة تشعر بالغبن مقارنة مع ما حظيت به جماعة أخرى من نفس الحلف أقل منها "مالا و ولدا" طيلة فترة تقلد مولاي ولد محمد لقظف منصب الوزير الأول في موريتانيا.
و مما زاد الطين بلة الجفاء الشديد بين الزمر المتصارعة من التحالفين المحسوبين على الوزير الأوليين مولاي و يحي ، و تجييش الإعلام ضد بعضهما البعض في إطار حملة غير مسبوقة بهدف تقزيم شخصية أو تضخيم أخرى.
هذا من ناحية ، و من ناحية أخرى فإن نظرة سريعة على خريطة البرجوازية الصغيرة الصاعدة، يبرز بوضوح هيمنة رجال أعمال شباب صعدوا بشكل صاروخي في عالم المال و الأعمال، من خلال الكسب السريع و المرتفع، مما عرضهم للانتقادات لاذعة وسط شكوك قوية بعلاقة عضوية تربطهم بالحاكم، و شائعات بحصولهم على تسهيلات و امتيازات و صفقات في جميع قطاعات الدولة، وهو ما دفعهم إلى مبادرة التأكيد على تقديم الولاء لولي النعمة، من خلال تظاهرتين مشهودتين هما " بشائر لعصابه" و " أوفياء للوطن".
و مع أن حجم التظاهرات و المبادرات " النواكشوطية" لا يعبر بوضوح عن مدى القبول أو الرفض للتعديلات الدستورية المرتقبة – حسب ما يرى مراقبون- إلا أن تمرير هذه التعديلات الدستورية لن يمر بسهولة في هاتين الولايتين - حسب المتابعين- ، لأن درجة كبيرة من السخط على معظم الوجوه التي تتصدر المشهد السياسي تسري بين معظم المجموعات الفاعلة في هذا الحيز، مما يستوجب الدفع بأخرى و تمكينها من حل فوري لبعض المشاكل الملحة في إطار تشاوري، لا يقصي" فلان" لحساب " علان"، و يأخذ في عين الاعتبار المعطيات القديمة في الوصول إلى المناصب و الحصول على الامتيازات.