لم تعش الدول العربية جدبا سياسيا وثقافيا مثلما عاشته مع سيطرة العسكريين على الحكم. ولم تكن موريتانيا بعيدة عن هذا المسار الذي عمَّ أغلب دول العالم الثالث. فبعد فراغ طويل لم تعرف فيه بلادنا مؤسسة الدولة منذ عهد المرابطين، ولدت الدولة الموريتانية.
وحكم الرئيس المدني المختار ولد داداه حوالي عقدين من الزمان. ولم يكن المختار رجلا ديمقراطيا، ولا كانت الديمقراطية قد أخذت مجراها في ثقافة الشعوب في أيامه، لكنه كان رجلا متعلما، لين العريكة، نظيف اليد، حريصا على وضع الأسس للدولة الموريتانية. ثم بدأ الحكم العسكري عام 1978، فأدخل بلادنا مرحلة قاتمة من تاريخها السياسي لم تخرج منها حتى اليوم. وكانت ثمرات الحكم العسكري مريرة للغاية. ومنها:
o هدم مؤسسات الدولة وتحويلها ريعا شخصيا وقبَليا يتحكم فيه الأقل كفاءة، والأفقر ضميرا، والأكثر أنانية.
o تمزيق اللحمة الوطنية، مما وضع البلاد على شفا حرب أهلية أكثر من مرة، كما شاهدناه في أحداث عام 1989 الدموية.
o إهمال المشكلات الهيكلية التي تنخر المجتمع، مثل مشكلة الاسترقاق وآثار الاسترقاق، والتعدي على الحقوقيين المدافعين عن حقوق الأرقاء السابقين.
o تدني مستوى التعليم بما يهدم مستقبل الأجيال الجديدة من الشعب، وفوضويته التي جعلت العلاقة بين التعليم والتنمية الاجتماعية منبتة.
o الانتهاك الواضح الفاضح لحقوق الإنسان من تعذيب وتشريد ونفي وتشهير، حتى لم تعد للأحرار من مواطنينا ومثقفينا كرامة.
o إفقار للموظفين والمتعلمين الذين كانوا يوما من الأيام نواة طبقة متوسطة مزدهرة، فتحلوا إلى معدمين وأسرى وظائف لا تغني من جوع.
والمثير للأسى حقا أننا أضعنا فرصة ذهبية عام 2005 للخروج من هذا النفق المظلم لم تتح للدول العربية الأخرى في الأعوام الأخيرة. وكان من الممكن أن تكون موريتانيا في طليعة الدول العربية ذات الأنظمة الديمقراطية اليوم، لو لم ينقلب محمد ولد عبد العزيز على الرئيس المدني المنتخب سيدي ولد الشيخ عبد الله يوم 6 أغسطس 2008. ولو أننا حافظنا على ذلك البرق الديمقراطي الذي لاح فجأة واختفى فجأة لجنبنا ذلك آلام المخاض الدموي الذي تعيشه دول عربية عديدة اليوم، ولجعل بلادنا اليوم مثالا يُحتذي، لا بلدا في مؤخرة القافلة. لكن شهوة السلطة لدى بعض القادة العسكريين منعت ذلك التحول السلمي من أن يأخذ مداه، وأرجعتنا إلى مرحلة الجمود في تطورنا السياسي. وكلنا نتحمل المسؤولية في وأد تلك الديمقراطية الوليدة، حرصا على غايات قصيرة النظر، أو تصفية لحسابات أنانية، أو عجزا عن
قراءة فجر الحرية المطل على المنطقة.
ويعتقد الحاكم العسكري الموريتاني اليوم أنه سيكون بمنأى عن سيل الثورة العربية الجارف، بإجراءات شكلية، وإصلاحيات جزئية، مشكوك في دوافعها، ومطعون في إنصافها. وذلك وهمٌ كبير سبقه إليه مستبدون كثر من قبل، في دول أرسخ من دولتنا نظاما، وأقوى بنيانا. والحقيقة أن الصراع بين الحاكم والمحكوم في الدول العربية اليوم – ومنها موريتانيا- لو يعد صراعا حول أداء السلطة، وإنما هو صراع حول بناء السلطة، بعد أن أدركت شعوبنا ما كان ينبغي أن تدركه منذ أمد بعيد، وهو أن البناء الاستبدادي لن يقود إلى نهضة في الداخل ولا إلى عزة في الخارج.
لقد رأينا في الأسابيع الأخيرة كل أنواع الترقيع التي يتقدم بها الحكام في أرجاء الوطن العربي، وقد ارتعدت فرائصهم، بعد سقوط رؤوس من أعتى عُتاتهم. وتفتقت قرائح المستبدين المرتعبين من شعوبهم عن مبادرات لا حصر لها، تهدف إلى إقناع الشعوب بالفتات، وشراء الولاء منها برشوة من مالها. وعجبا لمن يقدم للناس رشوة من مالهم!! فهذا ملك يرشو شعبه بمليارات الدولارات ليشتري منه الصمت والخنوع، وذاك رئيس يعلن عن زيادة الخدمة الاجتماعية ودعم الأسر المعدمة، وهذا آخر يعد بالإصلاح الدستوري وإطلاق الحريات (باستثناء حرية التخلص من سلطانه طبعا)... بيد أن أي ترقيع في الأداء السياسي أو الإجراء القانوني لن يقنع الشعوب اليوم، بعد أن قررت رفع الحجر المفروض عليها تماما، وهدم البناء الاستبدادي من القواعد، تمهيدا للإمساك بحرية قرارها واختيارها.
لقد أصبح من مسلمات العلوم الاجتماعية اليوم أن الشرعية السياسية هي الطريق إلى الأداء الصالح، والبناء المتراكم، والاستقلال عن القوى الدولية الطامعة. والمراد بالشرعية السياسية هنا هو (التأمّر في الأمير) الذي ورد في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه في صحيح البخاري: (قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخلف أبو بكر، والناس صالحون... فلما كان بعدُ قال لي ذو عمرو [أحد أعيان اليمن]: يا جرير إن بك عليَّ كرامة، وإني مُخبرك خبرا، إنكم معشر العرب لن تزالوا بخير ما كنتم إذا هلك أمير تأمَّرتم في آخر، وإذا كانت بالسيف كنتم ملوكا تغضبون غضب الملوك، وترضون رضا الملوك).
وما تريده الشعوب اليوم هو أن تتأمَّر في أمرائها، بالتحكم في توليتهم ومحاسبتهم وعزلهم، واعتبارهم خدما لديها، لا آلهة عليها، وأن تطرد منطق السيف وقانون الغاب من مسألة تداول السلطة إلى الأبد. ولن يكون شعبنا استثناء من هذا المنبع التاريخي الجارف الذي تفجر في بلاد العرب من المحيط إلى الخليج. فقد ولدتنا أمهاتنا أحرارا، ولا مستقبل لنا سوى الالتحاق بحركة التحرر من العبودية السياسية.
فعلى الحكماء من أبناء شعبنا من سياسيين ومثقفين وإعلاميين ودعاة ووعاة وقادة مجتمع وشباب أن يتقدموا الواجهة، ويقودوا المسيرة إلى مفاصلة نهائية مع الحكم العسكري المتلبس بأثواب زور من الديمقراطية، ووضْع الأسس الصلبة لبناء ديمقراطي حق، يعيد الأمور إلى نصابها، ويمهِّد لإخراج شعبنا من حالة القهر والفقر والاستبداد والفساد التي صبر عليها كثيرا. فهذه مسؤولية الجميع اليوم، حتى الذين دعموا الحاكم العسكري الحالي، أو تغاضوا عنه من قبل.. فالرجوع إلى الحق أوْلى
من التمادي في الباطل.
ومن المخارج الممكنة في الحالة الموريتانية تخصيصا:
أولا: فتح حوار مع الحاكم العسكري الحالي، محمد ولد عبد العزيز، لإقناعه بالخروج السلمي من السلطة، من خلال الإعلان عن انتخابات رئاسية مبكرة، مع التزامه بعدم الترشح أو الترشيح لها.
ثانيا: اعتبار حكم الحاكم العسكري الحالي فترة فراغ دستوري وانقلاب على السلطة المنتخبة، والعمل على استكمال الرئيس المدني السابق لمدة ولايته، وقيادة الفترة الانتقالية، ثم إجراء انتخابات رئاسية بعد ذلك.
ثالثا: الدعوة إلى حكومة إنقاذ وطني مجمع عليها، تقودها أيد نظيفة لم تتلطخ بسوءات الفساد والاستبداد من قبل، ولا تحمل مطامح سياسية في المستقبل، لتقود البلاد إلى الديمقراطية خلال مرحلة انتقالية وجيزة.
وتوجد مخارج سياسية ودستورية أخرى كثيرة، يحتاج أهل الرأي والحكمة من أبناء شعبنا إلى التفكير فيها، والاتفاق عليها.
وفي كل الأحوال فإن التغيير سيتطلب إصلاحات دستورية وقانونية وإدارية عديدة، يمكن الحديث عنها في حينها، لكن الأمر العاجل الذي لا ينبغي أن يختلف عليه اثنان اليوم، هو التخلص من حكم عزيز العسكري، وبناء حكم مدني ديمقراطية يسع الجميع. فإن لم يتحمس قادة الأحزاب والنقابات لهذه المهمة التاريخية، فعلى الشباب والطلاب الموريتانيين أن يتحملوها، فهم قوة الأمل وحماة المستقبل.
إنها لحظة المفاصلة مع الحكم العسكري في موريتانيا، من خلال ثورة شعبية سلمية هادرة، تُرجع حق الشعب إليه، وتعيد الجيش إلى ثكناته، وتحيله إلى وضعه الطبيعي: جيشا وطنيا محترفا تحكمه قيم الشجاعة والتضحية والفداء، بعيدا عن الانحياز السياسي والفساد الاقتصادي، وتطهره من القادة الذين تحولوا خلال ثلاثة عقود إلى رجال أعمال متخمين بالمال الحرام، يمتطون ظهور الجنود المساكين والشعب البائس بغير حق.