"إنه يغرق فلا تنقذوه" / محمد عبد الله ولد لحبيب

altينتمي هذا العنوان لحقبة النضال الموريتانية الأخيرة ضد نظام الرئيس معاوية لد سيدي أحمد ولد الطايع، كتبه قبل سبعة أعوام الأستاذ محمد جميل ولد منصور، أبعثه اليوم، تيامنا، لنهر الدم الطاهر المنسفك على أرض القيروان، وفي جنبات الزيتونه.

حيث يغرق واحد من أشرس طواغيت العصر، أبعث هذه الذكرى وصنم الخضراء يتهاوى تحت وطأة شباب حوَّل صدوره العارية معاول هدم تطايرت معها شظايا التمثال المعبود في قصر قرطاج. ثلاث خرجات بثلاثة رؤوس  في أسابيع ثلاثة غلا فيها المرجل التونسي تشتعل من تحته جاحمة وقودها الشباب والحجارة، يلتهم لهبها منازل المخمل في أحياء الزبرجد التي شيدت بعرق الفقراء، وبخيرات شعب كسرت ثورته الهائجة كل أبراج أرقام النمو والتقدم والاكتفاء، وأحالتها غبارا يزكم مناخير سدنة اللات، وعكرت صفاء هواء الخضرة التي تتفسها علية القوم السافلة.  أطلت الطلعة البهية لدكتاتور تونس وهو يترنح من "سكرة الصحو" المفروضة من لدن رفاق البوعزيزي، صحو، لا سكر بعده على ما يبدو!! في خرجاته الإعلامية الثلاث، عن الصمت والصواب، تصاعد مستوى تنازلات الجبار العنيد، وتصاعد صوته، وتصاعدت معهما حلته النفسية، فلم يطب له الحديث - إذا كان طاب فعلا- إلا واقفا، معلنا تهاوي ثلاثة الأثافي التي حافظت على وضع قدر طبخت فيها المؤامرات ردحا من الزمن لشعب كريم أمهل كثيرا لكنه قرر أن لا يسامح بحقه نهاية المطاف، أو يوكل غيره باستخلاص مطالبه. لم يدرك الجبار ابن اعلي وهو يعلن أمام العالم إزاحة أبرز معاونيه، وفتح الإعلام دون رقابة وإفساح المجال أمام حق التعبير السياسي بما فيه التظاهر، أنه يخط نهايته بظلفه، ويضجع جسمه المنحني في قبره، ربما من غيري حنوط ولا أكفان!!. فبضعة صفحات مسروقة، بشرف، على شبكة الإنترنت، وبضعة هواتف نقالة مزودة بآلات تصوير متواضعة الكفاءة، وفتيان تحدوا حظر التجوال، فكت قبضة العتمة عن أنفاس شعب تونس، فما بالك بمساحة تعبير باتساع الشبكة العنكبوتية وفضاء يتدفق بالمعلومة الغضة والصورة الناصعة؟ إن براقش تسير نحو نهايتها من أي الطريقين اختارت، أو اختير لها!!. سيرتفع سقف المطالب الجماهيرية كلما رأت بصيصا في طريق نضالها اللاحب، وهي التي أنارت لها شعلة بنطال الجنز على جسم البوعزيزي، نور الحرية في نفق مظلم عَرْضه الوطن وطوله عشرون سنة من هواجس رجل أمن مخمور. وبارتفاع سقف المطالب الشرعية للشعب التونسي تنخفض مطامح الرئيس وعصابته في البقاء! زيادة بنقصان وارتفاع بخفض، ومنحدر الهاوي إلى السفح أسرع من خطى المتسلق باتجاه القمة. كلاهما واصلان: أشلاء هذا ومِضاء ذاك وعزيمته. اللقمة والقبضة.. ولهيب النار قدمت وسائل الإعلام الغربية وسياسيوها ومحللوها النظام التونسي على أنه النموذج الأمثل لمواجهة التطرف الإسلامي الزاحف على معاقل العلمانية في العالم العربي والإسلامي، وسُوِّق نموذج "اللقمة والقبضة" باعتباره "المثال الديمقراطي" القابل للتطبيق حصريا في محيط تتشوف نفوس مواطنيه للتحرر من دون أن تعي طريقا محددا إليه. واستمرأ الغرب ضخ أموال موادنا الأولية في بالوعة القبضة الأمنية لنظام ابن اعلي. مقدما مقولات الحرية وحقوق الإنسان، وتعزيز الحريات قرابين على مذابح الحريات الجنسية، التي اعترف ابن اعلي نفسه أخيرا أنها وحدها المكفولة في أرض تونس. حمل الغربيون أمراضهم القذرة، محولين أرض الزيتونة إلى حمام دافئ، وخلفوا وراءهم موارد التنمية المستديمة وأهازيج الحريات، وسكروا حتى الثمالة من نَخْب قمع التونسيين بمختلف طوائفهم، "موفرين" ملاجئ لمن ضاقت بهم مساقط الرؤوس.  وقدم ابن اعلي نظامه على أنه نموذج التحديث والديمقراطية، والمعجزة الاقتصادية التي تحققت بالاعتماد على موارد محدودة.  سيق وسوق نموذج النظام التونسي على هذا النحو.  أما الشعب التونسي فيعطي اليوم نموذجه للتغيير؛ فتيانا وفتيات في أعمار الزهور ينازلون رجال "أمن أشبه بالخوف" مدججين حُقِنوا بكل قاتلات الكرامة والشهامة، واستبدلت السنوات العجاف مشاعر الإنسانية فيهم بإرادة إدامة الكرسي لرب النعمة، مديم النقمة. نواعم الأبدان، رقاق البنان يساقون الموت غلاظا شدادا نبتت لحومهم من حرام. فأي الفريقين أحق بالأمن؟. نموذجان تغطي بهما تونس اليوم وجه البسيطة وتسد منافذ بصر العالم إلا عن حقيقة واحدة: المَسُوقُ المُسَوَّقُ يرحل عن دنيا لا بواكي له بها. والشادن الخَدِر يتمخض ماردا جبارا يجرف زبد القمع جفاء، يعزف للحياة لحن دمائه الطاهرة يهديها ألق نفس الصبح المتبلج!!. ثلاث رسائل في ثلاثة اتجاهات  تبعث كرة الثلج التونسية المتدحرجة نار هشيم توشك ألسنة لهبها تُوقدُ أعرشة الجيران، برسائلها في اتجاهات ثلاثة، تخاطب سلاطين العرب، وارثين ومورثين، بنهاية عهد وبداية آخر. لقد فات أوان التمديد والتجديد والتوريث، وبات الدم القاني سُلَّمَ السلامة، من يدفع من دمه يستحق البقاء، ومن يشرب دماء الآخرين ليبقى فليرحل غير مأسوف عليه. وفي بريد الشعوب العربية تقول المَأْلُكَةُ التونسية إن "من لم يدفع ثمن الحرية شامخ العرنين، فسيدفع ثمن العبودية مطأطأ الرأس"، ولا مهر للحرية الحمراء غير الدم الأحمر. هذه بهذا، ولا ثالث للطريقين!!. وتعطي القيروان اليوم درسها الثالث للنخب العربية الراضية بالسقف الواطئ، المتوسلة إلى الحوار، وإلى التعقل، ومعالجة الأوضاع، وتدارك الموقف، والحلول الوسط، أن الطريق من هنا. "واقعية" المطالب تنتج وُقُوعيةً في الوسائل، وكلتاهما تريح الجسم، وقد ترفه الحال لكنها تضيع الأوطان، وعصابات التلصص المتحكمة طويلة الأنفاس، متسعة الأحلام ما رضينا ببيان ومسيرة ومظاهرة، لكنها قصيرة الأجل حين نحاول اقتلاعها. آلآن وقد عصيت قبل؟  قدم ابن اعلي في خطابه الأخيرة تبتل أفاق تائب يحصي ذنوبه بين يدي رب ضعيف الذاكرة. فكذب نفسه مرارا: حين أعلن أنه لا يريد ديمومة الرئاسة، ولن يترشح لولاية رئاسية جديدة، وأعلن عن فتح الإعلام دون رقابة، وسمح بكل وسائل التعبير عن الرأي، والاعتراف بكل الأطياف السياسية، زاعما أنه تم التغرير وحجبت عنه الحقائق. ولات حين مندم!!. إنها توبة فرعون أدركه الغرق.. فلا تنقذوه. لا تمنحوه فرصة أخرى لسرقة براعم الأحلام المتفتقة سقياها العبق النازف. ستكون خيانة لدم الشهداء الذين تضمخت أرض تونس بعبقهم، وكسرا لإرادة شعب طمح إلى الحرية والمجد حتى كانا منه قاب قوس واحدة، وأدنى.. لقد سقط فلا تعيدوه. 

14. يناير 2011 - 16:02

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا