في شعراء البلاط (ح3) / الأستاذ محمدٌ ولد إشدو

... لقد أغفل التاريخ، ونسي الناسُ ذِكْرَ معظم "شعراء البلاط" في "عصر الانحطاط" وكذلك كلَّ متشاعري الانقلابات الرجعية نُعَّابِ التيه والنكوص في بلادنا. وذلك بسبب انحطاط وسفالة البلاطات والقصور التي ارتبطت بها أسماؤهم.
وفي "عصر النهضة" والثورة برزت أجيال من شعراء الوطنية والحرية والإصلاح والثورة في جميع الأقطار العربية وفي المهجر؛

 ونبغ شعراء عمالقة أمثال أحمد شوقي بك، وحافظ إبراهيم، ومحمود سامي البارودي، ومعروف الرصافي، والجواهري، وأبي القاسم الشابي، والأخطل الصغير (بشارة الخوري) وجبران خليل جبران، وإيليا أبو ماضي، ونزار قباني، وصالح جودت، وأحمد رامي، ومفدي زكرياء، وعبد الرزاق عبد الواحد، والمختار بن حامد، ومحمد سالم ولد عدود، ومحمد الحنشي ولد محمد صالح، وأحمدو ولد عبد القادر.. وغيرهم.
وكان أحمد شوقي ونزار قباني ومفدي زكرياء وعبد الرزاق عبد الواحد والمختار بن حامد ومحمد سالم بن عدود من بين هذا الجمع "شعراء بلاط" بمعنى من المعاني. فهل حط ذلك من قدرهم الرفيع، أو أنزلهم منزلة غير علياء الشعر العربي وإمارته؟
ولنبدأ بأمير الشعراء أحمد شوقي بك.
كان أحمد شوقي بك ربيب البلاط الخديوي وشاعره الفذ. يقول في قصيدته التي نفاه بسبها الانجليز:
يا أكرم الأعمام حسبك أن تـرى ** للعَبرتين بوجنـــتيك مســـيلا
أأخون إسماعـــــــــيل في أبنائه ** ولقد ولدت بباب إسماعيلا؟!
وقد سبق شوقي الأمير محمد ولد الطالب إلى الفخر بكونه شاعر بلاط عال فقال:
شاعر العزيز وما ** بالقليل ذا اللــــقب
ليـــــــلة لســــيدنا ** في الزمان ترتقب
دونها الـرشيد وما ** أخلدت له الكــتب.
ومع ذلك فقد كان شاعر مصر الأول، وشاعر الوطنية والنهضة والإصلاح والتجديد في مصر والعالم العربي والإسلامي. وقد نبغ أحمد شوقي في الشعر وهو في الخامسة عشرة من عمره، وتأثر بفحول شعراء العرب من أمثال المتنبي، وببعض شعراء الغرب الذين اختلط بهم أثناء ابتعاثه إلى فرنسا ومنفاه في إسبانيا؛ وقال الشعر في جميع المناسبات والأحيان، وفي مختلف الأغراض؛ كالمدح والغزل والسياسة والوطن والحركات الوطنية، وفي ذكر شمائل الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وفي التربية والشباب والحزن والغربة والفقد.. ووصل إنتاجه إلى ثلاثة وعشرين ألفا وخمسمائة بيت ضمت معظمَها الشوقياتُ. وتميز شعره بالفصاحة والجزالة والجمال والإبداع وغزارة المعاني؛ مما جعل جميع شعراء العرب يبايعونه أميرا لهم.
ومن روائع شعر أحمد شوقي بك:
- قم للمعلم وفِّه التبــــــــجيلا ** كاد المعلم أن يكون رســولا..
- اختلاف النهار والليل ينسي ** اذكرا لي الصبا وأيام أُنسي..
- سلوا قلبي غداة ســــلا وتابا ** لعل على الجمال له عــتابا..
معتذرين عن الاكتفاء بالمطالع تحت ضغط دواعي الاختصار؛ مقترحين الرجوع إليها لمن شاء.
ومن أبدع وأرقى وأظرف وأطرف ما في سيرة الشعر والشعراء في عصر النهضة ما رواه لنا الرواة وسطر في دواوين شاعري مصر العظيمين: أمير الشعراء أحمد شوقي بك، وشاعر النيل حافظ إبراهيم، عن صداقتهما الحميمة وتعلق كل منهما بالآخر واعترافه له بالفضل عليه، بالرغم من أن لكل منهما ظروفه التي تميزه عن الآخر؛ إذ كان الأول شاعر البلاط الخديوي ويعيش عيشة مترفة، وكان الثاني شاعر الشعب الذي يقاسمه شظف العيش ومرارة الحياة وقسوة الأيام. ومع ذلك فقد ظلا زميلين في الكفاح والنضال من أجل عزة واستقلال مصر والأمة العربية والإسلامية، يدافعان عن الحقوق وينيران الطريق إلى التقدم والرقي، ولا يتركان مجالا أو موقفا إلا وقفا فيه معا؛ كل من زاويته وبأسلوبه، وحسب ما وهب من ملكة، يدافعان بالكلمة المجنحة عن حقوق الشعب والوطن والأمة. (انظروا "شوقي في شعر حافظ" للأستاذ الدكتور محمد مصطفى سلام).
وعندما قدمت شوقي مؤهلاتُه وعبقريته على حافظ، فتوج عن جدارة أمير شعراء العرب، لم نر من خلال شعر حافظ، وما نظمه في صديقه شوقي (ويزيد على مائتي بيت) إلا أن شاعر النيل كان محبا ومخلصا لأمير الشعراء؛ خلافا لما عليه جل الشعراء عندنا. كان حافظ إبراهيم يجل أحمد شوقي ويقدره ويكرمه تكريما لم ينله منه شاعر أو قائد أو أديب. ذلك لأن هدفهما ليس بلوغ مرام أو رتبة أو امتيازات مادية يسعى أحدهما لنيلها دون الآخر؛ بل كان هدفهما الدفاع عن مصلحة الشعب والوطن والدين والأمة، وتحقيق الرقي والتقدم، وبث الوعي. وكان كلاهما ركنا من أركان هذا المشروع النضالي النهضوي، وسندا للآخر في هذه المعركة المصيرية. وكانا إنسانين بما في الكلمة من معنى. زد على ذلك أن حافظ إبراهيم كان رقيقا، مخلصا، عطوفا، محبا لإخوانه مشاركا لهم في السراء والضراء.
وإني لأرى من المفيد والمربي لناشئتنا الشعرية التي لم تسمع قط - أو سمعت ولم تع- الآية العاشرة الكريمة من سورة الحشر، ولشيوخنا أيضا، تدبر الأمثلة التالية من ملحمة صداقة شوقي وحافظ الرائعة:
1.  تم اختيار أحمد شوقي ليمثل مصر في مؤتمر المستشرقين بجنيف فودعه حافظ إبراهيم بهذه الأبيات:
يا شاعر الشـــــرق اتئد ** ما ذا تحاول بعــــد ذاك
هذي النجوم نظـــــمتها ** درر القريض وما كفاك
وسموت في أفق السعو ** د فكدت تعثر بالســماك
ودَعَتْك مصرُ رسولَها ** للغرب مذ عرفت عـلاك.
2.    دعا شوقي حافظا إلى عقد قران ابنته في "كرمة ابن هاني" فأقعده المرض عن الحضور، فكتب إلى شوقي معتذرا:
يا ســـــيدي وإمامي ** ويا أديب الـــــــزمان
قد عاقني سوء حظي ** عن حفلة المهرجـان
وكنت أول ســـــــاع ** إلى رحاب ابن هـاني
لكن مرضت لنحسي ** في يوم ذاك القِـــران
وقد كـــــــفاني عقابا ** ما كان من حرمــاني
حُرمـت رؤية شوقي ** ولثمَ ذاك البــــــــنان
فاصــفح فأنت خليق ** بالصفح عن كل جان
وعش لعرش المعاني ** ودم لتاج البــــــيان.
3.    ولما نفى الانجليز شوقي إلى إسبانيا في الثلاثينيات تنكر الجميع له فضاقت عليه الدنيا بما رحبت، ولم يجد من يؤازره أو يواسيه إلا رفيق كفاحه حافظا الذي كتب إليه
يا ساكني مصر إنا لا نزال عـلى ** عهد الوفاء وإن غبنا مقيمينا
هلا بعثـــــــتم لنا من ماء نهركمُ ** شيئا نبل به أحــشاء صادينا
كل المناهل بعد النـــــــــيل آسنة ** ما أبعد النيل إلا من أمانيــنا.
فأجابه حافظ بقوله:
عجبت للنيل يــــــدري أن بلبله ** صادٍ ويسـقي ربى مصرٍ ويسقينا
والله ما طاب للأصحاب مـورده ** ولا ارتضوا بعدكم من عيشه ليـنا
لم تنأ عنه وإن فارقت شاطـــئه ** وقد نأيـــــنا وإن كــــنا مقيــــمينا.
4.    وعندما رجع شوقي من المنفى كان حافظ أول المبتهجين، وقال في ذلك:
ورد الكـــــنانةَ عبــــقريُّ زمـــانه ** فتَنَظَّرِي يا مــصرُ سِـــحْرَ بيانه
النيل قد ألقى إلــــيه بســــــمــــعه ** والماء أمسك فيه عن جـــريانه
والقطر في شــــوق لأندلســـــــية ** شوقية تشفيه من أشـــــــــجانه
أهلا بشمس المشرقين ومرحــــبا ** بالأبلج المرجو مــن إخــــــوانه
أشكو إليك من الزمان وزمــــــرة ** جرحت فؤاد الشــــعر في أعيانه
كم خارج عن أفقه حصب الورى ** بقريضه والعُجْبُ مـــــلء جــنانه
يختال بين الناس متــــــئد الخطى ** ريح الغرور تـــــهب من أردانــه
كم صك مسمعنا بجندل لفــــــظه ** وأطال محنتنا بطـــــول لــــــسانه
ما زال يعلن بيننا عن نفـــــــــسه ** حتى استعاذ الصم مـــن إعـلانه!
5.    ومن أروع ما قاله حافظ في شوقي قصيدته التي أنشدها في مهرجان البيعة الذي عقده شعراء العرب سنة 1927 في القاهرة لإعلان بيعة شوقي، فلم يتمالك شوقي ونهض من بين الحاضرين واحتضن حافظا وقبله فانحدرت دموعهما بغزارة، وفيها يقول:
بلابل وادي النيل بالمشرق اســجعي ** بشعر أمير الدولتين ورجــــــــعي
أعيدي على الأسماع ما غــردت به ** يراعة شوقي في ابتداء ومقــــــطع
لقد شاب من هول القوافي ووقــعها ** وإتيانه بالمـــــعجز المتــــــمــــــنع
أسالت "سلا قلبي" شجوني تــذكرا ** كما نثرت "ريم على القاع" أدمعي
وسينية للبحتري نســــــــــــختــها ** بسينية قد أخرست كــــــل مـــــــدع
شجا البحتري إيوان كسرى وهاجه ** وهاجت بك الحمراء أشجان موجع
وقفت بها تبكي الربوع كما بـــــكى ** فيا لكما من واقفــــــــين بــــــأربع
أبى الله إلا أن يــردك سالـــــــــــما ** ومن يرعه يسلم ويغـــــــنم ويرجـع
أمير القوافي قد أتـيت مبايـــــــــعا ** وهذي وفود الشــرق قد بايعت معي
فغني ربوع النيل وأعطف بنــظرة ** على ساكني النهرين واصدح وأبدع
ولا تنس نجدا إنها منبت الــهـوى ** ومرعــى المها من سارحات ورتع
وحي ذرى لبنان واجعل لتـونــس ** نصيــــبا من السلوى وقسم ووزع
ففي الشعر حث الطامحين إلى العلا ** وفي الشعر زهد الناسك المتورع
وفي الشعر إحياء النفوس وريــها ** وأنت لري النفس أعذب منــــــبع
فنبه عقولا طال عهد رقــــــادهــا ** وأفئدة شـــــــدت إليها بأنــــــــسع.
6.    ولعل ظروف شوقي وارتباطه بالخديوي ونفيه من طرف الإنجليز كانت تحول دون تمجيده لحافظ وإشادته به علنا، ولكنه كان يكن له كل التقدير والإعجاب والعرفان؛ لحد أنه ما من مناسبة تقام عند شوقي أو لشوقي إلا وكان حافظ أول المدعوين لها؛ الشيء الذي يبين لنا مكانة حافظ عند شوقي.
وظل الشاعران العظيمان متماسكين طوال حياتهما، متلازمين في السراء والضراء يعيشان لأمتهما العربية في الشرق والغرب إلى أن اختطف الموت شاعر النيل فكان الرزء فادحا والمصيبة كبيرة على أمير الشعراء الذي رثاه برائعة بدأها بقوله:
قد كنت آمل أن تقول رثـــائي ** يا منصف الموتى من الأحياء
لكن سبقت وكل طول ســلامة ** قَدَرٌ وكل منـــــية بقــــــضاء
الحق نادى فاستجبت ولم تزل ** بالحق تحفل عند كل نــــــداء
بالأمس قد حليتني بقصـــــيدة ** غراء تحفظ كاليد البيـــــضاء
غِيظَ الحسودُ لها وقمتُ بشكرها ** وكما علمت مودتي ووفائي
في محفل بشرت آمالي بــــــــه ** لما رفعت إلى السماء لوائي
كم ضقت ذرعا بالحياة وكيـدها ** وهتفت بالشكوى من الضراء
فهلم فارٍقْ يأسَ نفسك ساعـــــة ** واطلع على الوادي شعاع رجاء
وأشر إلى الدنيا بوجه ضاحــك ** خلقت أسرته من الــــــــسراء
يا طالما ملأ الندِيَّ بــــــــشاشة ** وهدى إليك حوائج الفــــــقراء
خلــــــــفت في الدنيا بيانا خالدا ** وتركت أجيالا من الأبــــــناء
وغدا سيذكرك الزمان ولم يزل ** للدهر إنصاف وحسن جــزاء.

يتبع

4. مايو 2017 - 19:26

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا