شهدت العاصمة انواكشوط يوم الثاني من مايو الجاري إضرابات للناقلين واكبتها أعمال شغب وتخريب .وقد جاءت هذه الأحداث إثر الإعلان عن بدء تطبيق مرسوم ينظم حركة السير ويفرض بعض الغرامات على المخالفين .وتدل الاحتجاجات التي اندلعت ضد هذا المرسوم على أنه لم يتم إعداده ولا التحسيس به بطريقة ناجحة تشرك الفاعلين في القطاع وتراعي ظروف الناقلين الصغار و سياراتهم
العتيقة التي تعد مصدر رزقهم وأسرهم .وقديما قيل :(إذا أردت ان تطاع فمر بما يستطاع)
.لكن هذه الاحتجاجات تحولت في بعض الاحياء الطرفية والفقيرة من العاصمة إلى أعمال شغب وسلب ونهب متجاوزة عرقلة حركة المرور لتصل الى الاعتداء على المارة بقبيح الفعل والقول واتخذت في عدة مرات طابعا عنصريا مقيتا .وكان الفاعلون - حسب الروايات المتواترة - أطفالا ومراهقين من شريحة الحراطين في حين كان الضحايا افرادا من شريحة البيظان.وقد مثل هذا التحول الخطير في مسار الاحتجاجات مصدر قلق كبير لدي عقلاء البلاد .حيث كان يخشى اذا تفاقم الأمر أن تخرج الأوضاع عن السيطرة و يدخل البلد في مسار فتنة دموية لا أحد يتمناها ولن تكون في مصلحة أحد.
وبعد أن استطاعت قوات الأمن -بحمد الله وتوفيقه - السيطرة على الأمور و فرض الأمن
والسكينة.،ينبغي البحث في سبب هذا التحول الخطير في مسار الاحتجاجات وما رافقه من سلوك عنصري عدواني لدى مراهقي شريحة معينة ضد افراد من شريحة اخري نهارا جهارا
وحسب رأيي المتواضع ،فإنني أعتقد أن هذا السلوك العنصري هو إحدي نتائج عدم معالجة (قضية مظلومية الحراطين )بصورة ناجحة وواضحة.فالغبن والحرمان الذي تعرضت له هذه الشريحة -ضمن ملابسات تاريخية معلومة -ولد شعورا كامنا لدي أفرادها بالتهميش و الظلم .و كل منهم يعبر عنه حسب مستواه المعرفي وسنه ونضجه العقلي. ولست من الذين ينكرون أن الحكومات المتعاقبة قطعت خطوات في سبيل تحسين ظروف الحراطين ومعالجة مخلفات الاسترقاق،غير أنني أعتقد أنه ماتزال هناك خطوات كبيرة وحاسمة ينبغي الإقدام على اتخاذها من أجل التمكين لهذه الشريحة الوطنية في بلادها لتمارس دورها كاملا في عملية بناء الوطن دون شعور بالنقص أو التبعية.وبذلك -وحده- يتم إفحام وإسكات الأصوات التي تشحن أطفال وشباب هذه الشريحة بالحقد و الكراهية وتعمل على تأليبهم ضد إخوتهم في الدين والوطن و تتاجر بمآسيهم في المحافل الدولية المشبوهة.
إن أول إجراء مطلوب -حسب تصوري- هو معالجة السبب الأول في عرقلة ترقية الحراطين .ألا وهو (نظام الازدواجية التعليمية النخبوي والمكلف ) الذي تم فرضه سنة 1999. فهذا النظام كان وبالا على فقراء موريتانيا وعلى القومية العربية فيها.فهو -بطابعه النخبوي وتكاليفه الباهظة - ظل يحرم أغلبية أطفال الحراطين من تمدرس ناجح يمنحهم نضجا عقليا ووجدانيا سليما ويفتح أمامهم فرصا للنحاح في الحياة .ثم يقذفهم بعد رسوبهم -شأن غيرهم من أبناء الفقراء من سائر الشرائح- جماعات يائسة تتلقفها عصابات الاجرام والمجموعات العنصرية و التنظيمات المتطرفة.
ان العدد الأكبر الآن من شباب الحراطين المتعلمين والناجحين هم من خريجي التعليم المعرب الذي انتجه إصلاح 1979 .الذي ،بالرغم من ارتجاليته وكونه لم يواكبه اصلاح مماثل للادارة والأعمال التي تركت في اكثر قطاعاتها لهيمنة الفرنسية وحدها، قفد خرج أجيالا من أطر الحراطين ما كان لأغلبهم -شأن اخوتهم من البيظان - أن يتكونوا ويتولوا بنجاح وكفاءة مناصب رفيعة لو ظل التعليم مزدوجا نخبويا تطغى عليه الفرنسة ويستحوذ على ثماره أبناء الأعيان.
لقد طالعت في بعض المواقع الإخبارية أن الحكومة قد قررت احتكار التعليم الابتدائي في حلقته الأولي (السنة الأولي والثانية) على مدارس التعليم العام .وهذه خطوة في الاتجاه الصحيح ينبغي دعمها . ولكنها غير كافية 'لأن مشكلة التعليم في بلادنا كما أسلفنا ليست - في المقام الأول - مشكلة تنظيم مؤسساتي او بنية تحتية او مصادر بشرية بالرغم من النقص والتقصير في هذه الجوانب الهامة ،ولكنها مشكلة تحديد الخيارات الثقافية والحضارية للبلد. فمنذ ما سمي بإصلا ح 1999 و التعليم لدينا ينهار بتسارع مقلق مخلفا أجيالا ضائعة ومحطمة تتقاذفها شراذم الانحطاط الخلقي وعصابات الإجرام و المجموعات العنصرية و التنظيمات المتطرفة.
ان اعتماد الازدواجية التعليمية المبكرة في نظامنا التربوي منذ 1999 كان خيارا تربويا سخيفا وكارثيا و عقيما .وبرهان ذلك نظريا: أن الإزدواجية اللغوية بمعنى إتقان الشخص للغتين هو- كما يؤكد علم النفس التربوي - أمر نخبوي يعني أنه لا يتأتى إلا لقلة من الأفراد .وحيث أن التعليم العام -في مرحلتيه الابتدائية والثانوية-ينبغي أن يكون ذا توجه عمومي يراعي التوسع كميا مع الحرص على توفير نسب معينة من الجودة ،فهذا يعني ان الإزدواجية نخبوية والتعليم ماقبل الجامعي عمومي ومعلوم التضاد بين النخبوية والعمومية .
أما برهان فشل وتهافت خيار الإزدواجية المبكرة من الناحية العملية فهو ما يلاحظ من تدني مستويات أغلبية خريجي المؤسسات التعليمية الذي تعبر عنه كل سنة النسبة المائوية المخجلة والمخزية لنجاح تلامذتنا في امتحانات الباكلوريا. وينضاف إلى هذا الهزال المعرفي شيوع فساد الأخلاق و الانحراف وعدم الحصانة ضد النزعات العنصرية والعدوانية.
ومن أخطر نتائج هذا النظام أنه - جراء نخبويته و ما يتطلبه نجاح التلميذ فيه من إنفاق في المدارس الخاصة و دروس التقوية - يجعل القلة الناجحة فيه تكون غالبا من أبناء الأغنياء أو الطبقة المتوسطة وهذا ما جعل المخرجات الأولية لهذا التعليم (ثانويات الامتياز .الثانوية العسكرية .مدراس المهندسين ) تمثل فرزا اجتماعيا تلقائيا حيث يلاحظ أن جمهور طلابها ينتمون الى العائلات الغنية من شريحة البيظان في غياب شبه كلي للتلاميذ المنحدرين من عائلات فقيرة مهما كانت شريحتهم الاجتماعية.
كم سمعنا و قرأنا من يفسر غياب التلاميذ من شريحتي الحراطين والزنوج في تلك المؤسسات بأنه راجع الى تمييز عنصري تمارسه الدولة ضد هاتين الشريحتين .وهذا غير صحيح البتة لأن دخول هذه المدارس يتم عبر مسابقات شفافة .لكن ما لم بستطع هؤلاء فهمه هو تأثير النظام الإزدواجي الذي يهلل له كثير منهم في إحداث هذا الفرز الاجتماعي - الاقتصادي .
إن في الأمر مفارقة أخرى تتعلق هذه المرة أيضا بشريحة الحراطين ،حيث ان هذه الشريحة بفعل ما عانته في الماضي من حرمان وغبن ،هي أحوج الشرائح الى نظام تعليمي ناجع ينتشلها سريعا من مهاوي الجهل والفقر و المرض .ويمكنها من الترقي والتحرر من الآثار السلبية للاسترقاق. ولكننا نلاحظ - لسوء الحظ - أن الهيئات التي تتبنى ترقية هذه الشريحة .لا تدرك خطورة النظام الإزدواجي على الحراطين ولا تولى عناية لهذا الأمر الهام .بل ان بعض قادتها من خريجي مدرسة الستينات المفرنسة معجب تماما بالنظام الازدواجي الحالي!!.وبعضهم يشكك في عروبة الحراطين حضاريا و يحالف مجموعات زنجية مناهضة للغة العربية .وبعض ثالث ينادي بأهمية التعليم بصورة مجملة دون وضع النقاط على الحروف في هذه المسألة المصيرية.
وحيث أن الحراطين ناطقون بالحسانية التي هي لهجة عربية أصيلة مما يجعلهم عربا من حيث الانتماء الحضاري ،فإن من حقهم -شأنهم في ذلك شأن اخوتهم البيظان - أن يحصلوا في بلدهم على نظام تعليمي معرب وإدارة وسوق عمل معربين .دون أن يعني ذلك تجاهل تعليم اللغات الأجنبية الحية بما فيها اللغة الفرنسية التي ينبغي اعتبارها اللغة الثانية في النظام التربوي.غير أن ذلك لا يعني أن تزاحم اللغة القومية الرسمية.كما أن من حق القوميات الموريتانية الزنجية أن تختار -بحرية وعقلانية- اللغة الحية التي تتلقى بها التعليم والخدمات العمومية مع التزامها بتعلم اللغة العربية كلغة ثانية .
ان معضلة النظام التربوي الحالي لا يمكن حلها ولو تم ضخ الاموال الطائلة في القطاع و توفير البنى التحتية وتلبية كافة مطالب المدرسين مع أن هذه الأمور ضرورية .ذلك أن الامر يتعلق بخاصية جوهريية في طبيعة النظام الازدواجي وهي - كما كررنا - نخبويته التي لا تنفك عنه . كما يتعلق أيضا بالرفض الشعوري للقومية العربية في موريتانيا بمكونتيها ( الحراطين والبيظان)لهذا النظام العقيم .
.لقد حاول سدنة نظام الازدواجية العقيم أن يغطوا على سوءاته بعد بان عواره وبواره بتأسيس ما سموهه ( مدارس الامتياز) فقدموا بذلك اعترافا صريحا بنخبوية هذا النظام وتعارضه مع مبدأ عمومية التعليم ما قبل الجامعي. وفتحوا الباب أمام فرز اجتماعي- اقتصادي تلقائي أصبح المصطادون في المياه العكرة يوظفونه دليلا على وجود تهميش مبرمج لبعض الشرائح في بعض المؤسسات
.ومنذ فترة سيرة طرح الصحفي والمدون المختار ولد عيدلها بذكاء سؤالا عن مشروعية مقارنة مدارس الامتياز مع مدارس أبناء الشيوخ التي أسسها المستعمرالفرنسي بسينلوي إبان الاحتلال وكان ينتقي لها بعض أبناء الشيوخ ويكونهم فيها ليتولوا مناصب إدارية مساعدة للسلطات الاستعمارية .إن هذه المقارنة -رغم فارق التوقيت والظروف -واردة جدا فمن جوانب التشابه بين المدرستين تتبادر إلى الأذهان :النخبوية لصالح البعض والإقصاء ضد البعض الآخر.
وبموازاة إصلاح نظام التعليم .لابد في الوقت نغسه من الإقدام على خطوات أخرى منها: الالتزام دوما بإعطاء الحراطين تمثيلا يناسب حجمهم الاجتماعي في كافة المناصب ذات الطابع السياسي ( الوزراء والسفراء ومن يماثلهم ).واعتماد نهج التمييز الإيجابي المؤقت لضمان ولوجهم بقدر مناسب الى مقاعد البرلمان والمجالس البلدية و الجهوية ،وإلى بعض مقاعد المسابقات التي لا تتطلب خبرة فنية عالية.
هذا فضلا عن السهر على التطبيق الصارم للقوانين دون محاباة أو تمييز لضمان تكافؤ الفرص بين كافة المواطنين.
لقد أثبت نهج التمييز الايجابي المؤقت (لفترة غير طويلة نسبيا كعشر سنوات مثلا )نجاحه في ترقية الفيئات الهشة ببعض البلدان .فهو يجبر خواطر المستفيدين ويعوضهم رمزيا عن فترة الحرمان ويمكنهم من اكتساب خبرات ومهارات تجعلهم قادرين بعد نهاية فترة التمييز على منافسة غيرهم من الفيئات الأخرى بطريقة أكثر تكافؤا.
ولا بد في الختام من تكرار القول إن الاشكالية اللغوية في بلدنا لا تتعلق بالتعليم فحسب ،بل تمتد الى الإدارة والأعمال .فلا يكفي اعطاء قومية وطنية حقوقها اللغوية في مجال التعليم مع ترك الادارة خاضعةبشكل مطلق للغة الفرنسية.بل لا بد من إيجاد حل عادل ومنصف لهذه الاشكالية الوطنية المؤجلة منذ الاستقلال.