قبل أن تضطرم النار في سيارة الأفانسيس قبالة مجلس الشيوخ، على مبعُدة أمتار جنوب القصر الرئاسي الموريتاني ظن الكثير من الموريتانيين أن بوعزيزيهم ولد وأن قطرات البنزين ستشعل الثورة في بلد المليون شاعر.. خمدت ألسنة اللهب بسرعة على أطراف جسم ولد دحود الغض وفي هيكل سيارته المتفحم..
لكنها أوقدت معها أسئلة سرعان ما تلمست خيوط إجاباتها متزحزحة عن مسار بوصلة الثورة!!. ينتمي الأربعيني النحيف (ولد في 20- سبتمبر- 1969) ذو البشرة البيضاء إلى ولاية تكانت بالوسط الموريتاني. لا تعرف له سوابق سياسية، ولم تنشر له وجهات نظر، باستثناء بعض الآراء الراديكالية في الرؤية إلى حاكم موريتانيا الحالي، منشورة على صفحته على الفيس بوك. هل تناول يعقوب ولد دحود طعام الإفطار قبل التوجه إلى ما كان يفترض أنه موقف سيارته الأخير..؟؟ ليس معروفا لحد الساعة!!. لكن الطريقة التي تصرف بها الرجل وهو يكتب، ما "رغب" أن يكون الصفحة الأخيرة في حياته تشي بطمأنينة قاطعة إلى التصرف التي سيقدم عليه!. قبل حوالي ساعة من إضرام النار في سيارته وجسمه كتب ولد دحود على صفحته على الفيس بوك عبارة "اخرج عزيز" ( degage aziz) في استيحاء ساخط لنموذج الثورة التونسية التي حملت الشعار ذاته في وجه الرئيس ابن علي قبل رحيله بساعات.. يقينا تفاءل ولد دحود برحيل سريع لرئيس موريتانيا. أوجه تأثر "المحترق الوطني" بالنموذج التونسي (اتفقت الدوافع أو اخلفت) بادية للعيان: صور الثائر التونسي البوعزيز وهو يتلظى في الجحيم الذي أحرق ساكنة قصر قرطاج تملأ صفحة الرجل على الموقع الاجتماعي،، وشعارات الدعوة لإخراج "زمرة مفسدي الجيش من الحكم في موريتانيا" تسد مناظر المطل على عالم يعقوب الافتراضي. تساءل التاجر المحترق على حين غفلة عن فوارق التوقيت "ألا نستحق نحن وأجيال المستقبل شھرا واحدا من الصمود لنخرج من الظلم والقمع الفكري والمادي والجسدي"؟ كان يريد أن يبدأ الشهر من صباح الاثنين السابع عشر من يناير، يوم حبيب على مريدي السفر في بلاد المنكب البرزخي، تيامنا بمولد الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام. "أوقفوا الظلم في موريتانيا" هو شعار المجموعة التي أنشأها الرجل على الفيس بوك جاعلة من تغيير الدستور الموريتاني أولى دعائم دستورها المطلبي. سرعان ما تفصح، المطالب المصاغة على شكل خطاب موجه إلى الرئيس الموريتاني، عن مراميها؛ حين تتقصد "منع العسكريين السابقين واللاحقين من الترشح لمنصب رئيس الجمهورية". فـ"موريتانيا للشعب وليست للجنرالات وحاشيتھم". قبل حوالي عام من الآن (مارس 2010) استيقظ قراء الإعلام الألكتروني الكثر في موريتانيا على رسالة حملت توقيع مورد معدات طبية يدافع فيها عما أسماه حملة إعلامية، مصدرها وزير الصحة، تستهدف النيل من شركته (الوطنية للطب) مجليا القيم التي تؤمن بها مؤسسته" الانضباط والنزاهة والالتزام بالإضافة إلي تعلقنا بهذا البلد وحرصنا علي مصالحه وتعلقنا بقيمه وتقاليده". لم يكن تاجر المعدات الطبية المتصارع مع وزير الصحة سوى التاجر المحترق اليوم على مقربة من القصر الرئاسي!!. "مواطن بسيط يطالب بحقوق مشروعة" يريد خفض الأسعار ودعم السلع الأساسية، وفرض الضرائب على السجائر، وإطلاق سراح المناضلين الحقوقيين، كما يصف نفسه.. تاجر معدات طبية كما يعرفه الناس، بوعزيزي موريتانيا كما "تمنى" أن يؤول أمره نهاية المطاف، معارض سياسي، بدوافع اجتماعية، واقتصادية، كما يمكن القراءة بين سطور مسقط الراس والخلفية الاجتماعية وبعض الشعارات وأشياء أخرى!!. قبل عشرة قرون من الآن كتب الفقيه القيرواني أبو عمران الفاسي (لم تكن تونس معروفة يومها) رسالة مع الأمير الصنهاجي إلى فقيه مغربي طالبا إمداده برجل يمكن أن يسوس الناس بالدين.. وقع اختيار الفقيه اللمطي يومها على مؤسس دولة المرابطين، عبد الله بن ياسين،،، اشتعلت الثورة بعد سنوات إعداد وتحقق الحلم.. قبل شهر من الآن كتب فقيه آخر من تونس رسالة إلى العالم العربي ومنه موريتانيا( بفضل الثورة الحديثة تلقينا هذه المرة من تونس من دون واسطة الجار الشمالي،،،) لكن الرسالة تحتاج على ما يبدو إلى ابن ياسين أو على الأقل بوعزيزي، إن حكمنا باستحالة وجود الأول. لم تلحق موريتانيا بالقيروان، هذه المرة، إذا، وعليها أن تنتظر بوعزيزيها؛ فالمحترق ليس بائع خضار، وسيارته المشتعلة تكفي لنفقات أسرة متوسطة لحين انتهاء مأمورية الرئيس الموريتاني الحالي سنة 2015، وكمية البنزين التي استعمل كافية لإحراق حقول كبيرة من المساحات التي يمولها القرض الزراعي الحكومي،،، والقضية التي يحترق من أجلها ليست قضية الفقراء وحدهم على الأقل.. لكن عمله موذنٌ بدخول أسلوب جديد فائق التكلفة سريع النتائج إلى ساحة مردت على أن التصدي لمسيلات الدموع هو قصارى ما يطلب من المناضل،،، وأن "كفى ببارقة المترك فتنة"!!. إن الذي احترق أمام القصر الرمادي بانواكشوط يوم السابع عشر من يناير سنة 2010 هو يعقوب ولد دحود، لا محمد البوعزيزي.