بما أن أشرف الحديث هو ما كان عن الله عز و جل و توحيده فسنتطرق في هذا البحث إلى التوحيد من وجهة نظر مختلف المدارس الإسلامية السنية من أشاعرة و سلفية و متصوفة ثم نعقبه بتحليل نقاط إتفاق و إختلاف هذه الطوائف ثم نختمه بمدلول التوحيد و أثره على حياة الإنسان في الدنيا و الآخرة راجين من الله عز و جل أن يتم به النفع .
يعتبر التوحيد هو الشهادة لله عز جل بالألوهية و الربوبية و الخلق و الرزق و الإمداد و الإيجاد و عدم إشراك غيره معه في أي صفة من هذه الصفات ثم توحيده في صفاته و أسمائه و تنزيهه عن المشابهة لمخلوقاته و الإيمان بصفاته العليا و أسمائه الحسنى ؛ يتميز الأشاعرة في نظرتهم للتوحيد عن إخوانهم السلفيين في جانب التنزيه فيركزون عليه أيما تركيز و هو جانب مهم لأن المتأمل إلى ما سارت إليه الديانات السماوية من تحريف و تبديل كان منشأه تشبيه الله عز و جل بخلقه حتى وصل الأمر بهم إلى إدعاء الولد لله عز و جل فشاء الله أن يظهر من أهل السنة من يحذر الأمة من بحر التشبيه و يغلق باب هذه الفتنة الخطيرة فتصدى أئمة الأشاعرة لصد كل باب يمكن من خلاله تشبيه الله عز و جل بمخلوقاته و ربطه عز و جل بالمكان و الزمان فنزهوا الله عز و جل عن أن يجري عليه الزمان لأنه هو خالق الزمان و عن أن يحويه المكان و هذا هو معتقد أهل السنة أن الله لا يجري عليه زمان و لا مكان لأنه كان قبل الزمان و المكان و هو على ما عليه كان ثم بعد ذالك نلاحظ أن الجانب الذي ركز عليه الشطر الآخر من أهل السنة ألا و هم السلفيون هو توحيد الألوهية و الربوبية ففصل فيه شيخ الإسلام إبن تيمية و تلامذته و نبهوا إلى أشياء و هي في الحقيقة مهم و جذرية و هي أيضا جوهر من جواهر التوحيد وركن من أركانه فكان تركيزهم على توحيد الألوهية و سبب هذا التركيز هو فشو بعض الممارسات بين أفراد المجتمع الإسلامي قد تشتم منها رائحة الشرك ، كان الصدام العقدي القائم بين السلفية الأولى ( يعني أهل الحديث أو الحنابلة خصوصا ) و الأشاعرة في باب الأسماء و الصفات فأشتد الخلاف بينهم حتى نسب أهل الحديث الأشاعرة إلى التعطيل و بالمقابل نسب الأشاعرة بعض الحنابلة إلى إعتقاد الحشوية أو المجسمة ( طائفة تثبت لله الأعضاء و الجسم و التحيز ) و لكن السؤال هو كيف نخرج من هذا الخلاف و من أين لنا بالمعتقد السليم و هل فعلا الأشاعرة معطلة و السلفيين مشبهة هذا السؤال جوهري في طرحه و ضروري و متجدد ، و للخروج من حيثياته يكون إعتقاد تنزيه الله عز و جل عن المشابهة لمخلوقاته من جهة و إثبات صفاته عز وجل له من جهة أخرى دون تشبيه أو تعطيل هو المخرج من دون التعمق في الموضوع الذي هو جزء من التنطع المنهي عنه ، هذا من جانب توحيد الأسماء و الصفات من الجانب الآخر و هو توحيد الألوهية يعتبر أول و أشهر من قسم التوحيد إلى توحيد ألوهية و توحيد ربوبية شيخ الإسلام إبن تيمية فنبه إلى أن المشركين من قريش كانوا يشهدون لله بأنه هو الرب وحده و لكنهم كانوا مشركين في ألوهيته فأشركوا مع الله آلهة كثيرة و هذه الحقيقة ثابتة في القرآن الكريم و لا مراء فيها و لكن الإشكال الذي يقع و يحل فيه الخلاف هو بعض الإعتبارات التي يرى فيها السلفيون أفعال شرك كالإستغاثة و الذبح لغير الله فيما تعتبر البقية من العلماء هذه الأمور من مواطن الخلاف فمثلا في قضية الإستغاثة يجمع السلفيون على أنها فعل شرك لكونها تقتضي دعاء غير الله و سؤاله في ما لا يقدر عليه إلا الله و يرى بعض المسلمين أن هذه القضية لها أصول و يستدلون ببعض الأحاديث كحديث يا عباد الله أعينوا الذي رواه البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا بلفظ:
(إن لله ملائكة في الأرض سوى الحفظة يكتبون ما يسقط من ورق الشجر، فإذا أصابت أحدكم عرجة بأرض فلاة فليناد: يا عباد الله أعينوني) ، ثم أثر إبن عمر الذي رواه البخاري في الأدب المفرد ( جئت ابن عمر فخدرت رجله فقلت : ما لرجلك ؟ قال : اجتمع عصبها . قلت : ادع أحب الناس إليك . قال : يا محمد . فبسطها ) .و ما يروى عن الإمام أحمد عن ابنه عبد الله في " المسائل " : " سمعت أبي يقول : حججت خمس حجج منها ثنتين [ راكبا ] و ثلاثة ماشيا ، أو ثنتين ماشيا و ثلاثة راكبا ، فضللت الطريق في حجة و كنت ماشيا ، فجعلت أقول : ( يا عباد الله دلونا على الطريق ) فلم أزل أقول ذلك حتى وقعت على الطريق . أو كما قال أبي ، و رواه البيهقي في " الشعب " و ابن عساكر هذا من ناحية من الناحية الأخرى يستدل السلفيون بما هو أقوى و أمتن من ناحية الدليل و هو نص كتاب الله العزيز في النهي عن دعاء غير الله عز و جل و الآيات في الباب كثيرة و منها قوله تعالى : {{ إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ۖ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }} صدق الله العظيم،
و لكن المشكلة المطروحة هنا هي في جواز إسقاط هذه الآية على عموم المسلمين الذي يشهدون لله بالوحدانية و لنبيه بالرسالة
كيف من الممكن إسقاط هذه الآيات على بعض المسلمين ممن يعتقدون الإستغاثة بالصالحين أحياءا و أموات ، الإشكالية هي أن هؤلاء المسلمين لا يعتبرون ما يقومون به خطأ بل يرون أنهم فقط يتوسلون إلى الله بأعمالهم الصالحة و لا يرون بذالك بأسا و لكن للخروج من هذا المأزق فمن الأولى ترك الإستغاثة لما فيها من شبهة و التعلق بالله وحده و ربط القلب به عز و جل .
من أجمل ما قرأت وصية الشيخ التراد ولد العباس و هو من كبار الصالحين و المتصوفة في نظم تصفية الطريق الذي ذكر فيه خطورة الإستغاثة قال رضي الله عنه :
ولا تقل في شدة وكربة *** يا سيدي وشيخنا وحزبه
مبتهلا وداعيا غير الإله *** مستغرقا عن الإله في سواه
تقول قد غفل عني أبي *** وشيخي حيث لم تفز بالأرب
وحيثما فزت بنيل ما تريد *** شرعت في الثنا على غير المجيد
فبعضهم بذا المقال كفرا *** وبعضهم لنحو ذا ما أنكرا
و من هنا نتطرق إلى حقيقة التوحيد و كيف فسره أئمة التصوف الكبار و الغريب أن كثير من الذين يقعون في الإستغاثة هم من المتأثرين بالطرق الصوفية و لكننا إذا تأملنا حقيقة التوحيد من كتب أئمة التصوف نرى فيه تفصيلا عجيبا في نظر المتصوفة أن للتوحيد قشر و لب و جوهر .
أما القشر فهو إعتقاد صدور الأفعال من الله و لكن صدور بعضها عن طريق الخلق ليس إستغلالا منهم في الفعل عن الله أو إشتراكا فيه لأن ذالك منافي لأصل التوحيد بل أن الله هو خالق الأفعال و العبد هو المكتسب لها و على هذه الدرجة من التوحيد أغلب المسلمين و لكن هناك طائفة توحيدهم أقوى و أرسخ و هو اللب من حيث كونهم لا يرون فاعلا إلا الله عز وجل و لو إجتمعوا مع الطائفة الأولى في إعتقاد أن للمخلوقات تأثيرا منضويا تحت فعل الله و خلقه إلا أنهم أشد يقينا بصدور الأفعال من الله وحده و الطائفة و التي تعتقد ما يصفه القوم جوهر التوحيد فهي وصلت إلى مرحلة لا ترى فيها فاعلا على الإطلاق إلا الله عز وجل على مطلق الحقيقة فهم يشهدون فعل الله عز و جل في كل شيء و يثمر ذالك الإعتقاد حالا من التوكل عجيبا بحيث يفرغ القلب من رؤية ما سوى الله فاعلا لأي شيء و يثمر ذالك الإعتقاد حالا من الرضى و التوكل و اليقين بما في يد الله ، قال الإمام الغزالي متحدثا عن هذه الدرجة من التوحيد : ( و حاصله أن يكشف لك أن لا فاعل إلا الله تعالى ) .
على مر العصور كانت رسالة الأنبياء من لدن سيدنا آدم عليه السلام وصولا إلا سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليهم تتحدث عن التوحيد و تجعله محور الرسالات و الكتب السماوية و إذا علمنا أن التوحيد يقابله الشرك عرفنا خطورة الشرك و مخاطره على مصير الإنسان في الآخرة فإنه ما من ذنب إلا و فيه مظنة المغفرة إلا الشرك كما قال تعالى : 《 إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا 》 .
من التعريفات المختصرة للشرك أن أصله هو إعتقاد إستقلال مخلوق عن الله ، أو إشتراكه مع الله عز و جل بالنفع و الضر أو حتى بالفعل و على ذالك تنبني كل أفعال الشرك من دعاء و تعلق وصولا إلى المحبة التي تضاهي محبة الله عز و جل و صرفها لمخلوق و السبيل إلى إجتنابه هو ربط القلب بالله عز و جل وحده دون شريك له تعالى عن ذالك علوا كبيرا و الزهد فيما في يد المخلوقين و معرفة أن لا نفع و لا ضر يمكن يتأتى من غير الله عز و جل إذ أن المخلوق لو كان يملك لنفسه نفعا أو ضرا لما كان يمرض و يموت ثم إن وصية رسول الله صلى الله عليه و سلم لعبد الله إبن عباس التي رواها الترمذي بسند صحيح خير دليل على التعلق بالله وحده قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( يا غلام ، إني أُعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سأَلت فاسأَل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأُمة لو اجتمعت على أَن ينفعـوك بشيء ، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ) .
يتبن لنا من ما سبق أن لا سبيل إلى السعادة و الطمأنينة و الرضا بالقضاء و القدر و التوكل إلا اللجوء إلى الله وحده و تعويد القلب على التعلق به وحده دون غيره فكل من توكل على شيء أوكل إليه و أصل كل فلاح هو الفلاح في الآخرة و لا فلاح في الآخرة إلا بكمال التوحيد و ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد ؛ إن من شهد أحدية الله و صمدانيته لا يمكن أن يشهد فاعلا غيره و لا متصرفا كائنا من كان إذ أنه من سوء الأدب شهود غيره معه فما بال طلب الحاجة ممن لا يقدر عليها ثم إن من المظاهر المخلة بالتوحيد صرف شيء من العبادة لغير الله كالسجود و الطواف و الذبح فلا ينبغي تحت أي طائلة الإقتراب من تلك الأفعال و الله ولي التوفيق .