موسيقى الهتاف / الشيخ أحمد ولد البان

altقبل أسبوع كان بين منعشي "السمر الثوري" الذي ينظمه الثائرون في ميدان التحرير كل ليلة شاب مبدع أخذ كل شعارات المحتجين وحولها إلى نشيد جميل اللحنوالكلمات..حول الهتاف العادي إلى موسيقى مؤثرة مادت لها كل أركان ميدان التحرير وكل مشاهدي قناة الجزيرة.

.فأسس لفكرة موسيقى الهتاف..وأعلن بفعله المبدع أن الثورة ستطال كل شيء حتى أنغام الموسيقى وألحان النشيد. هي الثورة في كبريائها العنفواني تهدم كل شيء لتبني كل شيء وتهبه شيئا من ذاتها المتفردة..لا تعترف بما كان قبلها لأنها لا تقبل البداية المنطقية "ما قبل" ولو كان ذلك القبلي ثورة هو الآخر..يأتي قانون الثورة رافضا كل القوانين إلا ما ترسي دعائمه شظايا الأشياء المتمردة في ثورة بلا قانون..وذلك أجمل ما في الثورة ولعله سر الترابط بينها مع الفن. "الفن مأساة" لأن المأساة تصنع ردة الفعل الثائرة/غير المتوقعة..سر قوة الثورة التشابه بين طبيعتها وطبيعة الفن لذلك كانت ثورة فرنسا التي دلفت منها إلى عصر الأنوار محمولة على أجنحة ريشات الفن الخالد.. الفن يتنبأ بالثورة ويحتفظ بلهب السنين وذلك سر مشكلة السلطة مع الفن لأن الفن ثورة. فهل الثورة فن؟ وأيم الله هي كذلك..لكنه فن لا تكتب كلماته إلا بمحبرة الدم..وتلك ثورة على الحبر أيضا..ترى هل ستقضي الثورات العربية الناهضة وهي تمضي في صيرورة خارج توقع أجهزة الرصد على وظيفة"محلل سياسي" ربما! إلا إذا جمع مفردات تحليله من الشعارات المحمولة بأيدي الثائرين وحينها سيتحول إلى مترجم لواقع متجسد..وتلك ثورة تهدم لتبني منطقا جديدا للتحليل.. حين انتهى الفنان الفرنسي جاك لويس ديفيد من رسم لوحته التشكيلية التي روى فيها بالريشة قصة القنصل الروماني الذي حكم على اثنين من أبنائه بالموت من أجل تآمرهما لعودة الملكي... منعت (السلطة)وزير الفنون الفرنسي اللوحة التشكيلية من العرض، كانت هذه اللوحة قبل سقوط الباستيل ولم يكن في دلالتها المباشرة أي شيء غير استعادة خبر من التاريخ...جلبة الجماهير الرافضة لقرار الوزير ضمنت لها العرض في صالون سنة 1789، واعتبرتها الجماهير التي أتت لرؤيتها جزءاً من الثورة، وهكذا وجد ديفيد نفسه النبي الفني أو الناطق الفني باسم ثورة لم تزل بذات الصدور. ذلك أن مثالية الفن وكبرياء الثورة يرفضان الاستراحة في نصف الطريق تماما كما يرفضان الانصياع للموت بمعنى مغادرة "الفعل" ولذلك يحمل نعش الثائر فنيا وثوريا رمزية أقوى في المنطق الفني والثوري من "الفعل الحي"..فيظل النعش يلهم الفن فيبدع ويحدو الثورة فتلتظي كما أن صاحبه حي يرزق...ولذات السبب تكره السلطة الفن كما تكره الثورة وتجعل من قتل الأول (الفن)حبوبا لمنع الحمل بالثاني(الثورة). دلفت ثورة الضمير العربي باب الدنيا فجأة من بوابة قرطاجة..لتؤكد الثورات دائما أن قانونها اللاقانون ومنطقها اللامنطق وأن صيرورتها خارج تصنيف"مقدمات"و"ممهدات" الساسة والمفكرين..لأن مفردات الواقع ومظاهر الأشياء لا تنبئ بأي بصيص للهب الثورة المستعر في أحشاء الرماد .. عميت أنباء الثورة على المخبر والمفكر معا..لم يسمع الأول حسيسها بل ضجيجها المرتجز في الضمائر المعذبة رغم أنه بـ"أذني فرس" ولم يرها المفكر/المحلل رغم أنه يملك فطنة"زرقاء اليمامة"..فما المتغير إذن في لعبة الحدث والمتحدث فيه والباحث عنه..كل شيء ثابت وفق خطاطة ملفات الأمن ومراكز الدراسات لكن المتغير أن الطبيعة الفيزيائية لجسم وصوت الثورة المنبعثة من أحشاء رماد السنين لا تتسق مع عدسات أعين وطبلات آذان الإنسان العادي إلا الثائر فقط.  هل رأت الأعين الكبيرة للولايات المتحدة مدفأة الجمر التي كانت تلتهب في ضمائر التونسيين..وهل سمعت آذانها القوية أي حسيس؟ وهبها كانت فلتة! فهل جاءت ثورة أرض الكنانة فلتة أيضا..الشيء الوحيد الذي ظلت حوادث الأيام تمضي متسقة مع كلماته وآياته هو القرآن(كمال الوحي) ثم الشعر(سمو الروح). لا جرم أن مواعظ القرآن ينتبه لها اليوم كل غافل، وأن كلمات الشعر الصادق يرددها كل لسان..هي إذن نواميس الدهر وسنن الكون يتتبع أقصى خباياها كتاب رب عليم ويقبس من أطرافها شاعر موهوب ..فهل المستقبل القادم للصلاة والشعر..للدعاء والهتاف؟ تلك تعاليم ثورية تركها ميدان التحرير باقية في أثره..وكتبها في مخيال أمة تتسور إلى غد تأتيه راجلة في موكب الدعاء والهتاف فقد سئمت الغد المدبج في أحرف لن تدب فيها الروح ولن تكتب لها الحياة..لأن الغد القادم للصلاة والشعر للدعاء والهتاف.

12. فبراير 2011 - 15:15

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا