الحقيقة أن الجريمة بمفهومها الشامل تراجعت نسبيا في موريتانيا المجتمع، حيث كان الظلم والنهب والقتل والسب والاغتصاب والسحر و(لحجاب) والتعبيد منتشر, تحت غطاء ما يعرف بطبقات المجتمع الزوايا والعرب ولمعلمين وزناكة ولحراطين, دون أن يكون هناك وعي بالخطورة الإجرامية لتلك التصرفات التي تمارسها بعض الطبقات على الأخرى.
لكن بعد ظهور موريتانيا الدولة وتلاشي السلطة التقليدية ــ القبيلة ـــ بدأت الجريمة تتغير مع التغيرات التي عرفها المجتمع الموريتاني البدوي, كظاهرة التحضر, والتفتح على العالم الخارج من خلال الوسائل التقنية الحديثة كالتلفاز والأجهزة الالكترونية, وكذلك انتشار التعليم المدرسي الغير معقلن ,مع تراجع حضور المحضرة, والتحصين الديني الذي كانت تتلقاه الأجيال السابقة.
وبما أن الجريمة تعد ظاهرة صحية حسب علماء الاجتماع, ومؤشر على النمو الاقتصادي والاجتماعي فإنه حسب اعتقادنا ساهم في ظهورها غياب العديد من المؤسسات نذكر أهمها من خلال النقاط التالية:
1 ـــ غياب مؤسسة التعليم وهشاشته : من المعلوم أن تحصين النفوس من الشذوذ الأخلاق لا يتم إلا عن طريق التثقيف والتوعية من خلال الاكتساب المعرفي، خصوصا المعارف ذات الطابع الدين والأخلاق وعند غاب التعليم خصوصا في السن المبكر, يجعل الصبيان عرضة للشذوذ والانحراف.
وبما أن غياب التعليم من أسباب انتشار الفقر والبطالة والمرض, يعد بذلك من أهم الأسباب التي تساهم في انتشار الجريمة, خصوصا أن هذه العوامل دائما ما تكون هي الدوافع إلى ارتكاب الجريمة ـــ أي الفقر والبطالة ـــ ولعل انتشار الأمية والجهل في موريتانيا, وبطريقة فاحشة في بعض الطبقات, أسهم وبصورة كبيرة في انتشار الجريمة البسيطة, كالقتل والسرقة.
2 ــ مؤسسة التحضر: إن التحول الذي عرفه المجتمع الموريتاني من الريف إلى المدينة وبهذه السرعة وكذلك غياب الوعي المدني لدى المواطنين ،والتنامي المتزايد للمدينة, وهشاشة البنية التحتية، وغياب الرقابة الرقمية في المدن, كل هذه العوامل ساهمت في ظهور الجرائم , نظرا لغياب التعامل العقلاني والتدرجي مع هذه الظواهر المتجددة.
3 غياب مؤسسة القانون : بمعنى عدم كفاية النصوص القانونية المجرمة وغياب تحينها لتواكب تطور الجريمة من جهة، وعدم تطبيق النصوص القانونية الموجود من جهة ثانية، بل وحتى التمييز الطبقي المادي في تطبيقها أحيانا أخرى، وكذلك جهل الجهات الوصية (القضاء) بروح القانون وطريقة تفسيره وتطبيقه, وسيطرة النفوذ والوساطة والوجاهة على حساب القانون.
4 ـــ غياب مؤسسة الأمن : ويقصد بذلك هشاشة الأجهزة الأمنية، من حيث ضعف التكوين وغياب الخبرة، وقلة أفرادها، والضعف البدني والروحي والمعرفي لأغلب طواق مها، و هزالة رواتب المكلفين بحماية الأمن مما يجعلهم من صناع الجريمة، وكذلك غياب التنسيق بين الطواقم الأمنية في الولايات، والتسيب الذي تعرفه مؤسسة السجن, وكذلك ظاهرة الهجرة وعدم السيطرة عليها ,وتجاوز السلطات والحد من حريات الأشخاص، تحت غطاء القانون .
5 ـــ غياب المؤسسات المجتمعية البديلة : أو على الأصح الغاب الفعلي لها وعدم قيامها بالأدوار المنوطه بها كالمؤسسات الدينية(المسجد والمحظرة) والثقافية (الندوات الثقافية والمهرجانات) والعلمية (دور الكتب ومراكز البحث) والترفيهية (الأماكن السياحية والساحات العمومية ) والاجتماعية (الجمعيات والنقابات والأندية) .
6 ـــ مؤسسات أخرى : كالطبقية المتجددة وهي ظاهرة الانتقام لدى بعض أفراد الطبقات المسحوقة في ظل العقود الماضية، وكذلك بقايا التمييز العرقي التكبر لدى بعض أسر البظان ,والتطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والتكنولوجي وسيطرة الآلة الرقمية, وكذلك غياب الدراسات الاجتماعية التي تدرس المجتمعات وتغيرها مع الزمن، من اجل الوقاية من الأمراض ـــ كالجريمة ـــ التي قد تلحقها نتيجة ذلك التغير, وتقديم الحلول المناسب لها في أسرع وقت ممكن.
تعده هذه الأسباب الأهم من بين أخرى, ساهمت في انتشار الجريمة بصورة كبيرة, خصوصا في المدن الكبرى, وعند تفعيل هذه المؤسسات, والتعامل معها بطريقة صحيحة سيساهم ذلك لا محالة في الحد من الجريمة, كظاهرة كونية وصحية .