شكرٌ بطعم الألم إلى "قطر الخيرية"! / محمد الأمين الفاضل

قد يمر الواحد منا بمشاهد ومواقف تبعث في نفسه مشاعر متناقضة، وهذا هو بالضبط ما حصل معي عندما شاهدتُ فيديوهات عن رحلة نظمتها "قطر الخيرية"  إلى ما كان يعرف في وقت سابق في موريتانيا بمثلث الفقر، وأصبح يعرف اليوم بمثلث الأمل، وذلك على الرغم من أنه لا شيء تغير في هذا المثلث، لا شيء تغير إطلاقا، سوى أن كلمة الفقر قد أبدلوها بكلمة الأمل، 

ومن المعلوم بأن كلمة الأمل في موريتانيا قد تبعث في النفس كل المشاعر السلبية، ولكنها لا تبعث أملا.
في موريتانيا يوجد عندنا طريق من أهم الطرق في البلاد، ويسمى بطريق الأمل، هذا الطريق تحول إلى طريق للألم والأحزان بسبب كثرة حوادث السير، وخاصة في مقطعه المتآكل والمليء بالحفر، وهو المقطع الرابط بين نواكشوط وبوتلميت.
وفي موريتانيا توجد عندنا دكاكين تسمى دكاكين أمل، وهذه الدكاكين تقدم في كل يوم فصلا جديدا من قصة معاناة وإهانة الفقراء في هذه البلاد.
وفي موريتانيا يوجد عندنا شباب الأمل، وهم لا يبعثون في النفوس أملا، وفي موريتانيا يوجد عندنا مثلث الأمل، وهو المثلث الذي نظمت له "قطر الخيرية" رحلة وثقت من خلالها شيئا يسيرا من معاناة الفقراء في هذه البلاد.
ذلكم كان قوس فتحته، من دون استئذان، في بداية هذا المقال، وذلك لأبين من خلاله بأن الفقر والأمل هما وجهان في هذه البلاد لمأساة واحدة، وبأنه كلما ارتسم أمل عريض على شفاه حكام هذه البلاد فإن ذلك يعني بأن مساحة الفقر المدقع قد ازدادت اتساعا على أرض موريتانيا.
هذا التناقض الحاصل بين الأمل العريض المرسوم على شفاه حكام البلاد والفقر المدقع الذي يتخبط فيه أغلب سكان هذه البلاد، قد يجعلكم تتفهمون تناقض المشاعر التي عشتها لما شاهدت فيديوهات رحلات قطر الخيرية إلى موريتانيا، وقد يجعلكم ذلك تؤمنون بأن من الشكر ما قد يكون بطعم الألم!
لا أخفيكم بأني قد غضبتُ كثيرا، وتألمت كثيرا، وأنا أشاهد أخا شقيقا من قطر في فيديوهات تم نشرها على اليوتيب تحت عنوان" "رحلة موريتانيا مع قطر الخيرية"، شاهدته وهو يتألم ويكاد يبكي بسبب ما شاهد من معاناة في مثلث الفقر، عفوا في مثلث الأمل. تألمت وأنا أشاهده يقول هل هذه مدرسة؟ هل هذا مستشفى؟ أترضون بأن يدرس أبناؤكم في مدرسة كهذه؟ أترضون بأن تلد زوجاتكم في مستشفيات كهذه؟ ولقد قال أخونا القطري بأن ما تنفقه سيدة قطرية في ليلة واحدة في مستشفى قد يكفي لبناء مستشفى متكامل في قرية موريتانية.
لقد تألمتُ وغضبتُ، وذلك لأنه لو أنصف الدهر لكانت هناك منظمة خيرية تدعى "موريتانيا الخيرية" تنافس "قطر الخيرية" في الإنفاق على الفقراء في البلدان العربية والإسلامية الفقيرة.
قد لا يعلم أخونا القطري الذي كان يتحدث في الفيديوهات والذي لم يستطع أن يخفي ألمه بسبب ما شاهد من معاناة الفقراء في موريتانيا، قد لا يعلم هذا الأخ بأن أهل هذه البلاد قد أنعم الله عليهم بثروة حيوانية هائلة تقدرها الإحصائيات الرسمية  ب22.5 مليون رأس (1.4 مليون رأس من الإبل؛ 1.8 مليون رأس من الأبقار؛ 19.3 مليون رأس من الماعز والضأن)، أي أن المتوسط الذي يمتلكه الموريتاني من المواشي يصل إلى  ستة رؤوس.
وقد لا يعلم أخونا القطري بأن أهل هذه البلاد قد أنعم الله عليهم بشاطئ يعد من أغنى شواطئ العالم بالسمك، وبأننا نمتلك واجهة بحرية على المحيط الأطلسي يبلغ طولها 720 كلم.
وقد لا يعلم أخونا القطري بأن أهل هذه البلاد قد أنعم الله عليهم بأرض يوجد في باطنها، وحسب التقديرات الرسمية المعلن عنها: أكثر من 1.5 مليار طن من الحديد،  و 25 مليون أونصة من الذهب، و 28 مليون طن من النحاس،  و 140 مليون طن من الفوسفات ، و 11 مليون طن من لكوارتز، و 6 مليارات طن من الجبس.، وإذا ما اكتفينا بالحديد لوحده، فإن بلادنا تعد هي الثانية إفريقيا من حيث إنتاج الحديد، والخامسة عشر عالميا، وذلك بإنتاج سنوي يصل إلى 13 مليون طن.
وقد لا يعلم أخونا القطري بأن أهل هذه البلاد قد أنعم الله عليهم بأكثر من 500 ألف هكتار صالحة للزراعة، منها أكثر من 135 ألف هكتار علي الجانب الموريتاني من نهر السنغال. 
هذه البلاد التي أنعم الله عليها بكل هذه الثروات المعدنية والحيوانية والسمكية الهائلة، قدَّر لها في نفس الوقت أن يكون عدد سكانها أقل بكثير من سكان مدينة واحدة كالدار البيضاء في المغرب.
الآن هل فهمت يا أخي القطري لماذا شعر كاتب هذه السطور بالغضب والمرارة وهو يشاهد صور المعاناة التي وثقتها في فيديوهات رحلتك إلى مثلث الفقر، عفوا إلى مثلث الأمل؟
إننا في هذه البلاد لا نعاني من الفقر بسبب نقص في الثروات أو في الخيرات، وإنما نعاني من الفقر بسبب الفساد وسوء تسيير الأنظمة التي تعاقبت على الحكم في هذه البلاد.
فهل تعلم يا أخي القطري بأنه في الوقت الذي وثقت أنت فيه صورا ومشاهد من معاناة الفقراء في هذه البلاد، وفي الوقت الذي يشكو فيه المواطنون من العطش والجوع في شرق البلاد وفي غربها، في شمالها وفي جنوبها، بأنه في هذا الوقت بالذات قد قررت حكومتنا أن تنفق المليارات من الأوقية على استفتاء عبثي من أجل إضافة خطين أحمرين على علمنا الوطني.
وهل تعلم يا أخي القطري بأن الحجة التي تحتج بها الحكومة لإنفاق هذه المبالغ الطائلة من أجل إضافة خطين أحمرين على علمنا الوطني هو أنها تريد أن تمجد المقاومة وأن تخلد بطولاتها، والمقاومة المقصودة هنا هي مقاومة أجدادنا الذين جاهدوا ضد النصارى المحتلين من قبل أن تكون هناك دولة موريتانية.
هذه المقاومة التي جاهدت ضد الاستعمار الفرنسي من قبل ظهور الدولة الموريتانية هي التي ستخلدها حكومتنا اليوم باللون الأحمر، وهو اللون الذي أصبح يرمز في الذاكرة العالمية إلى اليسار و إلى الشيوعية.
لا تستغرب يا أخي القطري من حكومتنا إن هي أرادت أن تمجد مقاومة إسلامية بلون أصبح محتكرا في التراث العالمي لليسار وللشيوعية! ولا تستغرب يا أخي القطري إن سمعت غدا عن حاكم جديد لهذه البلاد يقرر هو أيضا إنفاق المليارات من الأوقية لمحو آثار سلفه، ولإزالة خطين أحمرين جاء بهما سلفه، وإن في ذلك ما يفسر شيئا من حكاية معاناتنا المتجددة.
إن ما وثقه أخونا القطري من بؤس ومن مشاهد مؤلمة ليس إلا جزءا يسيرا من معاناة الفقراء في تلك المنطقة بشكل خاص، وفي موريتانيا بشكل عام، وأذكر بأني في نهاية حكم الرئيس الأسبق معاوية زرت قرية في تلك المنطقة، وقد صدمتُ مما شاهدتٌ.
في إحدى قرى تلك المنطقة تعرفتُ على عجوز كان ينفق عليها ابنها الوحيد الذي كان يشتغل في خدمة المنازل، وذلك من قبل أن يصاب بشلل تام أعاده إلى القرية وإلى والدته العجوز، والتي لا تمتلك ما تطعم به ولدها المريض، أما علاجه فذلك من الكماليات التي لا تحلم بها. أهل هذه القرية الصغيرة هم جميعا من الفقراء، وقد لا يجد الواحد منهم  فضلة من أرز أبيض يقدمها للعجوز ولابنها المريض. لم يكن لديَّ  في ذلك الوقت ما أقدمه للعجوز الفقيرة ولابنها المريض سوى أن أتعهد لهما بأن أعمل ما في وسعي حتى أسمع أنينهما لحكام البلاد، ومن هنا جاءتني فكرة كتابة رسائل مفتوحة إلى الرؤساء، وكانت الرسالة الأولى عن "عجوز أمبود"، وقد بعثتُ برسائل مفتوحة أخرى لأربعة رؤساء تعاقبوا على حكم هذه البلاد : الرئيس معاوية الذي يوجد اليوم في قطر، و الرئيس أعل ولد محمد فال رحمه الله، والرئيس  سيدي ولد الشيخ عبد الله، و الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز.
واليوم لا أدري إن كانت "عجوز أمبود" وابنها قد غادرا الحياة أم لا، إن الشيء الذي أستطيع أن أجزم به هو أن حال المنطقة لم يتغير رغم مرور أربعة رؤساء على الحكم. لا شيء تغير في المنطقة سوى أنها كانت تعرف في الماضي بمثلث الفقر، وأصبحت تسمى اليوم بمثلث الأمل، والأمل في موريتانيا قد يكون أقسى من الفقر.
أخي القطري، يبقى من واجبي ورغم ما أشعر به من مرارة وغضب، أن أتقدم إليكم وإلى "قطر الخيرية" بخالص الشكر على ما بذلتم من جهد من أجل كشف معاناة الفقراء في بلادنا، وتقديم العون والمساعدة لهم، وأتمنى منكم ومن كل الأشقاء مواصلة جهودكم الخيرية إلى أن ينعم الله على أهل هذه البلاد بحاكم عادل يشفق على الفقراء ويتألم لحالهم. 
حفظ الله موريتانيا وقطر..

22. مايو 2017 - 6:51

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا