شهر القرآن شهر الصيام شهر الفرقان شهر الأمن والأمان تتنزل فيه موائد الرحمن ترتيلا للقرآن وبيان من الرحمن فمن شهد منكم الشهر فليصمه تزكية للروح وتطهيرا للأبدان وبسطا للأرزاق وخلقا للأمن والأمان والذي يحرم منه الإنسان إلا بالإيمان، والذي هو سبب في بسط الأرزاق، قال تعالى:{ ولو أن أهل القرى آمنوا وتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض}، وقال:{ الذين امنوا ولم يبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} .
ولاشك أن أهم مقوم من مقومات الأمن في الإسلام هو توفير أسباب الإطعام والتخفيف من غلواء الجوع، لضمان الأمن من الخوف النعم التي أمتن الله بوجودها على الناس، قال تعالى:{ فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}، فالإطعام من الجوع هو من أجل مقومات الأمن في الإسلام، فالإطعام في الإسلام هو الأساس الذي يقوم وينشأ منه الأمن في مختلف المناحي وهو الذي يحتاجه كل إنسان في هذه الحياة، والمحكوم على كل الحكومات بالفشل والخيبة إذا لم تتمكن من توفره وتعمل على تحقيقه في حياة الناس، والإطعام والأمن هما أهم الأسس التي تقوم بهما الحياة وهما يقومان على مقومات لابد فيها من بسط قانون العدل في التدبير والبسط والتنفيذ والحماية وهي أسس يبين لنا القرآن المنزل في رمضان أنه لا بد من إيجادها وتوفرها وأن الصوم هو إعلان وترجمة حية لذلك:
الأساس الأول : النظام والقانون النافذ: فعندما يوجد قانون العدالة في توزيع الأرزاق والموارد ويسود التطبيق والتنفيذ تطمئن النفوس وتهدأ الخواطر ويشعر كل فرد في المجتمع بأنه في مأمن وأمان على حقه وأسباب رزقه من أي تجاوز من اكتناز أو احتكار أو إسراف أو تبذير، فتطمئن النفوس وتنشرح الصدور فيظهر الأمن ويسود التآخي وتموت الأحقاد والضغائن، وينتشر الاطمئنان عند الأفراد على المال والحياة والأولاد، وهكذا نجد أن المجتمعات والدول التي يسود فها قانون العدل في المال والأرزاق ينتشر فيها الأمن والاستقرار.؟
فالنظام والقانون وظائفهما في الحياة أنهما ينشران في النفوس التي تريد الشر بالآخرين مخاوف من نيل العقاب جراء أي تجاوز على حق الآخرين، وهذا الخوف من العقاب هو أكبر رادع يمنع الأشرار الفاسدين المفسدين من القيام بأعمالهم الشريرة من حرمان وغش وظلم ونهب وتبذير واحتكار ورفع في الأسعار، فيكون الناس في مأمن من شروره وطغيانه وقد ورد في الأثر:"من آذى مؤمناً فقد آذاني"وفيه" لا يحل لمسلم أن يروع مؤمناً"، فالتعدي على حرمة الأرزاق وأسباب العيش هو تعدي على حرمة الدين، وهو تجاوز على منظومة القيم التي جاء بها، الإسلام لتنظيم حياة المجتمع .
والمعروف أنه عندما تسود قيم العدل في توزيع أسباب الرزق والعيش يسود القانون أيضاً لأنه في تلك الحالة سيخرج من كونه نصوصا وكلمات مقننة على الورق، إلى مؤشر يؤشر لحياة الناس، وبانتشار قيم العدل في الرزق وأسباب المعاش يتحقق مقوم مهم من مقومات الأمن الاجتماعي ألا وهو سيادة القانون. الذي يترجم هذه القيم إلى أفعال وتروك. وبسيادته يسود الأمن والاستقرار حيث سيقف القانون بوجه كل من تسول له نفسه النيل من حقوق الآخرين ويثير الطمأنينة في النفوس بأنها في مأمن طالما كانت السيادة لتلك القيم المترجمه نظريا في نصوص قانونية أو دستورية معدلة أو غير معدلة؟! .
الأساس الثاني: خلق وبسط التكافل الاجتماعي: ومن مقومات المجتمع الصالح وركائز ومقومات وضمان الأمن فيه وتحكم مظاهر الإسلام في حياته هو انتشار قيم ومفاهيم التعاطف والتوادد بين أعضاء المجتمع، فكل فرد فيه يجب أن يحمل قدرا كبير من العاطفة نحو الفرد الآخر فينظر إليه كما ينظر إلى نفسه، يسدده بالنصيحة إذا كان محتاجاً لها، ويقدم له المال عند العوز، ويعرض عليه خدماته كلما ألمت به الحاجة.
وهذه هي صفة وقيم وحقيقة المجتمع الإسلامي كما يريده القرآن في تواده و تراحمه وتعاطفه والذي يأمره الهدي النبي الشق الثاني للوحي بأن يكون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، مجتمع يعضد بعضه بعضاً خلافاً للمجتمعات المادية التي يعيش كل فرد فيها عالمه الخاص الذي لا يمت بأية صلة بعالم الآخرين، لا جسور بينهم ولا تواصل كالجزر المتناثرة في البحر المظلم الهائج المتلاطم .
فهذا القرآن الذي نتلوه في رمضان يعلمنا أننا في الحياة بإزاء نوعين من المجتمعات؛ النوع الأول تسوده المحبة والأمن والاستقرار والثاني مجتمع مفكك كل فرد فيه يعيش على حساب الآخر، يقتات من عرق جهده متجاوزاً على حقوق غيره ففي هذا المجتمع لا نشتم رائحة الأمن ولا نحس بوجود المشاعر الإنسانية، والإسلام يريد لنا غير ذلك.
فالنوع الأول هو المجتمع الإسلامي الذي يقول فيه الحبيب المصطفى القائد القدوة والأسوة الشفيع- صلى الله عليه وسلم-:" الله في عون المؤمن ما كان المؤمن في عون أخيه المؤمن"، فحين يكون محور المجتمع هو الإحسان حتى للمسيء فكيف ستكون حالته عند الرخاء والمحبة والاستقرار. كيف سيكون حال المجتمع الذي يصبح كل فرد فيه خادماً للآخر يتطوع لخدمته بكل مشاعره متلذذا بها ويستأنس عندما يأمره أخوه بأمر فيلبي له حاجته بشغف ومحبة، وتلك هي خصائص المجتمع الإسلامي، الذي يشعر كل فرد فيه أنه ليس لوحده بل هناك الآلاف ممن يعيشون معه على أرض واحدة، وهو محتاج لهم كما هم محتاجون إليه وان أي ضعف في جزء من هذا المجتع سيؤثر سلباً على الجزء الآخر. فعلى هذه الروح قام التكافل الاجتماعي كأروع ما يكون في التاريخ البشري.
الأساس الثالث: إحياء وفي المجتمع مبدأ التعايش: فواعل الأمن في الدولة والفاعلين السياسيين عندنا مطالبون حماية للوجود والبقاء بأن يعملوا بمنهج العدالة والتربية والتعليم على خلق وتربية كل فرد من أفراد مكونات المجتمع بأن يقتنع ويحس كل عضو في المجتمع بأنه لا يعيش لوحده بل يعيش مع الجمع، فلابد من بناء قواعد سليمة للعلاقة معهم تقوم على أسس من القيم الإنسانية تدفع بأعضاء المجتمع إلى الاندماج في بوتقة واحدة، وتخطي الحالة الفردية إلى الحالة الجماعية ويصبح الفرد منتمياً إلى المجتمع بدلا من أن يكون منتمياً إلى ذاته، يأخذ بأخلاق المجتمع ويسلك سلوكه، يتغنى بأمجاده ويفرح بأيامه وينتمي لرموزه وأعياده ويفرح لفرحه ويحزن لحزنه، وهذا هو مفهوم التعايش بأبهى صوره الذي يريده منا الإسلام من خلال الكثير من تعاليمه ومبادئه والتي منها قوله تعالى:{ يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}، وقد كان القائد القدوة والأسوة الشفيع المعلم- صلى الله عليه وسلم- يعلمنا ويجسد لنا ذلك في حياته، بحيث إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه فإن كان غائباً دعا له وإن كان محتاجا واساه وإن كان مريضا زاره، وفي الأثر"مداراة الناس نصف الإيمان والرفق بهم نصف العيش"وفيه" دار الناس تأمن غوائلهم وتسلم من مكائدهم"، وفيه" ليس شيء أدعى لخيرٍ وأنجى من شر من صحبة الأخيار" وهو بهذا يريد للمجتمع أن يتحول أفراده إلى صالحين من خلال معايشته لهم المعايشة الإيجابية باقتفاء أثرهم والأخذ بأخلاقهم وسلوكهم الصالحة، وهذا ما يشير إليه الأثر التربوي التوجيهي:"اتقوا الله وكونوا بررة متحابين في الله متواصلين متراحمين.
ولما كان المجتمع من حيث الغنى والفقر على درجات وطبقات وكان لابد من معايشة أضعف هذه الطبقات خدمة للسلم الاجتماعي وضماناً للأمن المجتمعي والذي يشير إليه الأثر:" أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض، تمسكنوا وأحبوا المساكين وجالسوهم وأعينوهم، وتجافوا صحبة الأغنياء وارحموهم وعفوا عن أموالهم، ولا تصاحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم"والأمر بمجالسة الفقراء مقصد شرعي لأنهم الطبقة المعدومة التي تحتاج إلى المساعدة بينما تأتي التوصية بالابتعاد عن مرافقة أهل البدع لأنهم يثيروا الفتن في المجتمع ويدفعون به إلى عدم الاستقرار والأمن.
فالمعايشة ذات بعدين؛ بعد سلبي وهو كل ما يثير المشاكل في المجتمع وبعد إيجابي بالالتصاق بكل ما يمسك الجماعة ويجعلها كتلة متراصة واحدة والتعايش بهذا المعنى له آثار أخلاقية، فمن آثاره تحمل الآخرين والصبر على أذاهم وقبولهم قبولا حسناً في مختلف الظروف والأحوال في الأحزان والمسرات لأن التعايش هو أساس بناء المجتمع الإسلامي، ومن أجل ما يحتاجه مجتمعنا المسلم اليوم هو التعايش الحقيقي القائم على الإنصاف والعدل والإحسان والبر والتعاطف والتوادد والتراحم .
الأساس الرابع: هو خلق ثقافة التسامح ونبذ العنف:من المعلوم علميا وتجربة أنه لا يوجد ما يفتح النار على الأمن الاجتماعي مثل العنف واستخدام القوة في حسم الأمور بدلاً من العودة إلى القانون، وقد أظهرت أحداث الثاني من مايو الخطر الحقيقي الذي يغشانا بسبب انتشار ثقافة العنف في المجتمع بسبب انحسار حالة التسامح والتعاطف والتوادد، لقد أصبح العنف اليوم ظاهرة خطيرة تهدد المجتمع بالانهيار والانزلاق إلى حروب وصراعات داخلية لا يعلم مدى خطورتها إلا الله، أصبحنا أمام مجتمع يعتدي بل يقتل فيه الأخ أخيه بسبب تلك الصراعات السياسية والأيدلوجية التي ترافقها ظواهر العنف، الأمر الذي يستدعي منا وقفة لتأمل لهذه الظواهر الخطيرة لمعرفة أسباب توقيها ونتائجها المدمرة للجميع.
فظاهرة العنف هي أكثر ما يتفشى اليوم في المجتمع الذي ينتشر فيه الجهل والتطرف والظلم والقهر والفقر والحرمان ومخلفات الظلم والذي يؤدي بدوره إلى سلب الأحقية عن الآخرين وذلك هو منشأ التطرف والعنف والفتن التي لا تبقي ولا تذر ؟