من روائع السلف الصالح / ا. د.أحمـدو ولد عبد الدائم

... آه ... ما أحوجنا فى هذه الأيام ، إلى نماذج تحتذي ... فالشعوب لا تنهض ولا ترقى ولا تتقدم إلا من خلال نماذج وأمثلة عليا تراها أمامها وتقتدى بها وتقتفى أثرها... في ظرف يعز فيه الرجال و يختلط فيه الحابل بالنابل ، ما يعسر معه اقتفاء الأثر و لو من نبه...
       فمهما تعاقبت الدهور، وتباعدت الأماكن ، تظل نماذج السلف الصالح  نجوما متلألئة يهتدى بها السائرون فى بيداء الحياة... 

القفر ... وفي هذا السياق  ارتأيت استحضار نموذج الصديق رضي الله عنه ...أول من أسلم ...أول من جمع القرآن ...أول من سمي خليفة(الإمام جلال الدين  عبد الرحمن بن أبي بكر  السيوطي، تاريخ الخلفاء ،دار الغد الجديد ، ص : 38  وما بعدها) .
    عند توليه الخلافة، قام  أبو بكر فى الناس خطيبا... وبعد أن حمد الله وأثنى عليه، قال: «أيها الناس: إنى وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينونى، وإن رأيتمونى على باطل فسددونى... أطيعونى ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لى عليكم... ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندى القوى حتى آخذ الحق منه.. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم» .
      هذه هى الأسس التى وضعها وسار عليها الصديق، وتجاوبت معها الرعية؛ متابعة، وتقويما، ومراجعة، ومحاسبة...والمتأمل فى هذه الكلمات، يجد قمة التواضع، والإصرار على إقامة العدل، والالتزام بالشورى وإنصاف المظلومين...
          وفى اليوم التالى لتولى الخلافة، خرج الصديق إلى السوق وعلي ساعده أبراد وهو ذاهب إلي السوق  لكى يمارس حرفته العتيدة ، التجارة،  فقال عمر رضي الله عنه أين تريد ؟ فقال : إلي السوق  قال : تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين ؟ قال : فمن أين أطعم عيالي ؟ فقال : انطلق يفرض لك أبو عبيدة  فانطلقا إلي أبي عبيدة فقال : أفرض لك قوت رجل من المهاجرين ليس بأفضلهم ولا أوكسهم وكسوة  الشتاء و الصيف إذا أخلقت شيئا رددته و أخذت غيره ... وكانت هذه هي المرة الأولى فى تاريخ الإسلام والمسلمين، وربما فى التاريخ الإنسانى، التى يفصل فيها بين السلطة والثروة...
      ولعل القارئ الكريم يتذكر جيدا كيف يلعب الزواج بين السلطة والثروة في أي نظام حكم  أدوارا خطيرة فى فساد الدولة وخرابها (...) وهذا شىء بدهى وطبيعى، فالقابع على رأس السلطة يستغلها ويوظفها فى خدمة ثروته، وهو ما يؤثر سلبا على أسلوب نظام الحكم من ناحية، ويؤدى بالقطع إلى ضياع حقوق الآخرين، بشكل مباشر و غير مباشر ... فتعاطي الحاكم التجارة يفسد الحكم ويفسد التجارة...
      من عظمة الصديق أنه استخلف من بعده عمر الفاروق، أحد عظماء الرجال فى تاريخ الإسلام، بل فى تاريخ الإنسانية كلها...واختيار العظيم لتولى مسؤولية أو قيادة أمر ـ ما ـ يدل دلالة قاطعة على عظمة من اختاره... وقد أوصى الصديق عمر بوصايا تدل على حكمة سديدة، ونظرة ثاقبة، ورؤية عميقة، وإحاطة شاملة بما يجب أن يكون عليه المسئول...
فى وصيته الأولى يقول الصديق لعمر: «إنى مستخلفك من بعدى، وموصيك بتقوى الله».. حقا، ليس هناك أجل ولا أغلى فى حياة الإنسان من تقوى الله..وقد عرفها الإمام على بأنها :«الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والاستعداد ليوم الرحيل»..ولو استعرضنا آيات القرآن، لوجدنا كلمة التقوى تحتل منزلة كبرى ...
حيث إن كثيرا من الناس إذا استشعروا غياب الرقابة من رؤسائهم المباشرين، عاثوا فى الأرض فسادا، وهذا فى الحقيقة يمثل أحد أسباب التخلف والتردى لكثير من الدول والأمم والشعوب...لكن، عندما يستشعر الناس (حكاما ومحكومين) أن ثمة رقابة إلاهية مستمرة ودائمة، ترصد حركاتهم وسكناتهم، وتعلم ما يخفون وما يكتمون، وأنهم سوف يحاسبون ويساءلون فى الآخرة على ما قدمت أيديهم، فسوف تنضبط أحوالهم، فلا أحد يستبد، أو يسرق، أو يتكاسل، أو يأكل مال يتيم...إلخ.
وفى وصيته الثانية، يقول الصديق لعمر: «إن لله عملا بالليل لا يقبله بالنهار، وعملا بالنهار لا يقبله بالليل».. مثل ذلك، الصيام فهو لا يكون بالليل وإنما بالنهار، حتى يستشعر الصائم الجوع والعطش، ويتحقق المراد من الصيام.. وتكون صلاة التهجد بالليل، لا بالنهار، حيث العمل والسعى وراء الرزق، وهكذا.
  وفى وصيته الثالثة، يقول: «وإنه لا تقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة»..والمقصود أن على الإنسان أن يقوم بالفرائض أولا، ثم بعد ذلك إذا تيسر لديه وقت أن يؤدى النوافل..فعلى سبيل المثال، ليس من المقبول أن يقضى الإنسان ليله كله فى صلاة تهجد، فإذا جاء الفجر أعياه التعب والجهد فينام عن صلاة الفجر... وليس من المقبول أيضا أن يترك الإنسان عمله المسئول عنه والذى يقتات من ورائه، ليذهب إلى صديق له لكى يعوده أو يطمئن على صحته، وهكذا.
  وفى وصيته الرابعة، يقول: «واعلم أنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة بإتباعهم الحق فى الدنيا وثقله عليهم..وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا..وإنما خفت موازين من خفت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الباطل وخفته عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفا»..وذلك مصداقا لقوله تعالى: «والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون* ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون» (الأعراف: ٨-٩)، ولقوله أيضا: «فمن ثقلت موازينه فأؤلئك هم المفلحون* ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم فى جهنم خالدون» (المؤمنون: ١٠٢-١٠٣).
  وفى وصيته الخامسة، يقول: «إن الله ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئاتهم، فإذا ذكرتهم قلت: إنى أخاف ألا أكون من هؤلاء..وذكر أهل النار فذكرهم بأسوأ أعمالهم، ولم يذكر حسناتهم، فإذا ذكرتهم قلت: إنى لأرجو ألا أكون من هؤلاء..وذكر آية الرحمة مع آية العذاب ليكون العبد راغبا راهبا، ولا يتمنى على الله غير الحق».
ثم يقول فى نهاية وصاياه: «فإذا حفظت وصيتى فلا يكن غائب أحب إليك من الموت - وهو آتيك - وإن ضيعت وصيتى فلن يكون غائب أبغض إليك من الموت ولست بمعجز الله . والعجيب، أن عمرا كان يلبس خاتما من حديد نقش عليه: كفى بالموت واعظا...
وكل ذي إبل يوما سيوردها   وكل ذي سلب لابد مسلوب
                                                                                                                                                           والله من وراء القصد 

3. يونيو 2017 - 12:30

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا