قال الله تعالى في محكم التنزيل" وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ"، وقال جلّ في علاه "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ"، وقال أيضا "أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ". صدق الله العظيم
إن الفساد على أيدي المتهافتين على المناصب بكل الوسائل و السبل المريبة و القسرية و المحاصصية،
وتهميش الصالح العام، و الظلم الصامت ـ في ظل غياب عقد اجتماعي يحقق قدراً ضروريا من العدل يسمح لفئات كثيرة من الشعب، تعاني من انتقاص حقها، بالمشاركة في السلطة و الحصول على حصتها من خيرات البلد الوفيرة ـ و إن ظلت تختبئ هذه الثلاثة منذ الاستقلال وراء مظاهر العدالة الزائفة فإنها قد تشكل إن ظلت على حالها علة الاستقرار و نهاية أحلام الواهمين ببقاء الأمور على ما هي عليه من اختلال.
و مما لا ريب فيه عدم جنوح الموريتانيين في غالبيتهم العظمى إلى العنف بل و عزوفهم عنه بكل أشكاله و مختلف درجاته، و هي نعمة إلهية كبرى تتقاسمهم إياها بعض الشعوب و تحسدهم عليها كثير منها أخرى. و لهذه الظاهرة الحميدة أسباب متعددة منها:
· الموضوعي المرتبط بالمعتقد المشترك و وحدة المذهب المالكي الذي يعرف عنه نبذه العنف، و تقاطع طرقه في ممارسات العبادة، و تقاسم مسطرة الأخلاق و القيم الفاضلة المستمد جلها من الدين و بعضها الآخر من الإرث الحضاري الثقافي الصنهاجي الزنجي الإفريقي،
· و ما أملته طبيعة الجغرافيا الترابية القاسية بجفاف ثلاثة أرباع مساحتها المترامية الأطراف، و السكانية في الاحتياجات المشتركة على خلفية انتشار المكونات المختلط داخل هذا الفضاء الشاسع المتميز عموما بقلة أهليته للعيش السوي إلا أن تتضافر فيه الجهود و تصدق النوايا و يُنتهج السلم و الاستقرار في ظل العدالة.
و لما كان الظلم سائدا في البلاد من خلال "التراتبية" المجتمعية ـ التي لم يسلم منها مجتمع على مر العصور و لم تستطع أن تُثني عنها الديانات في تعاقبها ـ فإن الإسلام استطاع الحد من فظاعتها و صنع قوالب هيأت النفوس للتعايش بأقل تنافر و تدابر، كما وضع قواعد سلم اجتماعي حقيقي رغم اختلالات أدواته جعل من الممكن للحياة أن تأخذ معه مسارا جديدا يضمن حصول أقل حد من العدل و يصنع للكرامة الإنسانية أدنى إطار مقبول للتعايش السلمي و التكامل المادي.
و قد كان الاستعمار الذي دخل البلاد حاملا مرارة الاحتلال و ليجثم عليها و يضمها إلى إمبراطوريته الاستعمارية الكبيرة التي كانت تنافس وحدها الإمبراطورية البريطانية و شرع في استغلال خيراتها من ناحية، هبط في الأرض الوعرة السائبة بفائدة تفتيح العيون و تنوير العقول على مدى التخلف الشديد الذي تتخبط فيه و مدى فداحة الظلم الذي تسلطه القلة على الأغلبية، في غياب الدولة و الحكامة، بحجة التفوق العرقي و السبق المعرفي، و بالمنهج التسلطي المرير، فأسس هذا الاستعمار التجمعات الحضارية بمقومات المدنية و ضمانات الاستقرار، و أعان على تأسيس الأحزاب السياسية لضبط التعامل في قوالب جديدة تعتمد الحوار و التوافق بدل المواجهات الدائمة و العنف اللفظي و الحربي و التحالفات المريرة و الهشة، و خَلقَ أطرا أخرى كذالك كالنقابات و المنظمات التي تستبعد الانتماءات الضيقة و تعتمد الدراية و المعرفة و القدرة على القيادة و رص الصفوف و تصور البرامج و الحلول.
إلى هذا ظهرت خلال سنوات الاستقلال الأولى بمحضر مستشارين فرنسيين بوادرُ كيان مركزي متماسك يتجه بخطى مهتدية إلى قيام الدولة المركزية الجامعة، لكن سرعان ما عاد بعد حين هذا الكيان إلى أحضان النهج "السيباتي" بعد الاستغناء عن الاستشارية الفرنسية ليتخذ مسار الأحادية من خلال حل كل الأطر السياسية و الإبقاء على الحزب الواحد المهين ، ثم اتخاذ القرارات الفردية التي كان من أخطائها الفادحة إشعال فتيل حرب الصحراء حتى عجلت بالانتكاسة الكبرى و مكنت لسلطة العسكر و رجوع منطق الماضي بكل عنفوانه من خلال إعادة التشكل الجديد لفسيفسائه المبنية على قواعد منظومة "الظلم الصامت" و السبق "للأكثر إقداما" و "إدراكا لخنوع القوم للأقوى" و تحويل أحلام قيام دولة القانون إلى مآرب الأقوياء.
و جاءت على حين غرة رياح الديمقراطية، التي هبت على العالم في مطلع التسعينات إثر تفكك الاتحاد السوفييتي، فاقتلعت بسحرها الأخاذ قشور الواقع الأليم و غطت بدثارها السطحي صفحته المغبرة، و لكنها عجزت عن اقتلاع وساوس العمق و صلابة "السيبة". ظهرت الأحزاب تحكي قصتها و تحمل سماتها و تتبع منهجها المبني على الصراع من أجل السلطة و تسخير مقدرات البلد لإرضاء غرور قادتها بعيدا عن إرادة بناء الكيان القوي من خلال فلسفة العمل المشترك و نشر العدالة و المساواة بين المواطنين، و توطيد الاستقرار و دعم الأمن لأهميته الكبرى في حياة الشعوب وتطور الدول والمجتمعات، علما بأن الدول التي تعيش الاستقرار لفترات طويلة دائما ما تكون عامرة ومتطورة في مجالات عدة مثل الصناعة و الإعمار والتعليم والصحة، و أن سعادة الشعوب تكمن في استقرارها الذي هو بالتأكيد مرتبط بنظام حكم عادل توفره حكومة تبذل قصارى جهدها لتوفير العناصر الأساسية التي تحلم بها هذه الشعوب؛ سعادة تكمن في الأمن والاستقرار وتوفير الدعم المادي الذي يأخذ كل تجلياته في إشاعة التعليم الصحيح، و توفير الرعاية الصحية والغذائية المتوازنتين، و خلق مناخ صحي وديمقراطي يبعث الأمل في وجدان الشعوب التي طالما حلمت بكل ذلك.
و يبقى السؤالان الملحان: هل مقاساتنا السياسية المبتورة من أطراف الوطنية و التجرد للدولة و الجد للتنمية و العدالة، إضافة إلى واقعنا الاجتماعي من زمن آخر، و انتشار الظلم الصامت على خلفية الفساد و استئثار القبليين و رجال أعمالهم و ضباطهم و مدارس أبنائهم الخاصة بالقصعة كاملة من ناحية، و الصراع العقيم على السلطة من ناحية أخرى، تَترك جميعُها قدرَ دانق من الأمل في اللحاق بالركب الأممي السائر بخطى متلاحقة إلى رحاب العولمة، و هل تستمر عافية الاقتضاء في حضرة الوعي الطافح بضرورة تغيير الأوضاع المختلة لقيام دولة القانون و البناء؟