المتتبع للأحداث ولعلاقات موريتانيا الخارجية يلاحظ ويدرك أن العلاقات الموريتانية القطرية لم تكن علاقات جيدة ولا هي بالقريب من ذلك خلال السنوات الأخيرة، فهي كانت من ذلك النوع من العلاقات التي لا أحد من الطرفين يريد تفعيلها ولا قطعها.. وذلك منذ الزيارات المتعددة والملفتة التي أداها الأمير القطري السابق لموريتانيا، والتي كان البعض يتساءل عن السر في تعددها وتقاربها وماذا تريده قطر بالذات من موريتانيا،
وكانت من بينها زيارة له في عهد الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله، وبحث الأمير في تلك الزيارة أمورا سياسية داخلية حساسة بدا أن ولد الشيخ عبد الله أنصت لها مقابل وعود من الأمير بمواكبة موريتانيا تنمويا.
خرج ولد الشيخ عبد الله من الحكم ووصل ولد عبد العزيز الذي حاول الأمير القطري أن يعرض عليه خلال زيارة له نفس الشروط بنفس المزايا، لكن الرئيس ولد عبد العزيز لم يستجب معتبرا عرض الأمير تدخلا في الشؤون الداخلية لسياسة البلد، ومنذ ذلك الحين لوحظ تعليق قطر لكل ما وعدت به من استثمارات كتعمير الأرض التي اشترتها مؤسسة الديار القطرية شمال غرب نواكشوط لغرض إنشاء مركب سياحي، وكذلك بناء فندق " حمد " على شارع جمال عبد الناصر بالإضافة إلى تعهدات مالية أخرى، بينما لوحظت مواكبة الهيئات والصناديق السعودية والكويتية والإماراتية لمشاريع التنمية في موريتانيا بدون انقطاع وبشكل معتبر، حتى قبل الأزمة اليمنية بل وقبل قيام " الثورات " في المنطقة العربية التي أدت إلى فرز جديد للعلاقات العربية العربية، في حين لم يكن هناك من أثر لتمويلات أو مساعدات قطرية إلا تلك التي بدأ تنفيذها في عهد ولد الشيخ عبد الله كأنشطة هيئة قطر الخيرية ومستشفى " حمد " بأبيتيلميت. وبدا كذلك أن قطر، في إطار الخلاف المزمن والكامن بينها وبين بلدان الخليج الأخرى خاصة السعودية والإمارات، تفضل أن تكون علاقاتها بموريتانيا، وربما بلدان أخرى، على حساب العلاقات مع هذين البلدين، وهو خيار محرج وصعب بالنظر لأهمية العلاقات مع مجموعة بلدان مقابل العلاقات مع بلد واحد!
بعد تنحي الأمير القطري الأب، وتولي الأمير تميم لقيادة الدولة لوحظ أنه ينتهج في العلاقات القطرىة الموريتانية نهج أبيه وهو تطوير العلاقات المشروط بتقريب وإشراك النظام الموريتاني لأحد التيارات السياسية بعينه في الحكومة، وإن كان لم يزر موريتانيا كما فعل والده مرارا واكتفى بتوجيه دعوة للرئيس محمد ولد عبد العزيز لزيارة قطر، وهي الدعوة التي تمت الاستجابة لها مع تراخ في تحديد موعدها إلى أن تمت على شكل مرور للرئيس عزيز بقطر في طريقه إلى نواكشوط قادما من القمة الإفريقية الهندية في دلهي.. لم يستقبل الأمير الرئيس بالمطار واقتصرت الزيارة على ساعتين فقط، ولم يصدر عنها أي بيان ولم تتمخض عن نتائج كتلك التي تتمخض عادة عن زيارات القادة بعد توجيه الدعوة لهم، وبدا أنه لم يتم بحثه خلالها سوى إن كان الرئيس عزيز قد غير موقفه من الشروط القطرية القديمة مقابل استئناف ما يسمى ب " العلاقات المثمرة "، وهو ما كان معروفا أن موقفه منه لم يتغير باعتباره شأن موريتاني داخلي..
لوحظ كذلك أن السفير القطري في نواكشوط كان من أقل السفراء العرب والأجانب نشاطا ولقاءات بالمسؤولين الموريتانيين بمن فيهم الرئيس خلال هذه السنوات، كما كان السفير القطري هو السفير العربي أو الأجنبي الوحيد الذي يتم استدعاؤه من طرف قيادة الأركان دون اتضاح أسباب الاستدعاء من مصادر رسمية، واستدعاء السفراء يتم عادة من طرف وزارة الخارجية كاحتجاج من بلد المقر على مخالفة للأعراف الدبلوماسية من قبل السفير، أو موقف غير ودي لدولته.. لكن استدعاء السفراء من طرف قيادة الأركان له طابع خاص ينم عن تصرف من نوع آخر للسفير أو دولته.. كما لوحظ تلقف قناة الجزيرة القطرية للخبر المزعوم عن إبرام موريتانيا لمعاهدة مع القاعدة ونشره على صفحتها قبل أن تحذفه وتعتذر عنه، لكن وقعه غير الودي كان قد أخذ مداه..
قبيل أو أثناء التدخل العسكري للمملكة العربية السعودية وحلفاءها في اليمن وصل كل من وزير الخارجية القطري حينها خالد بن محمد العطية، ووزير الخارجية العماني يوسف بن علوي إلى نواكشوط في يوم واحد، وقيل حينها إن زيارة الوزير العماني جاءت في إطار إشرافه على فتح السفارة العمانية في نواكشوط، لكن زيارة الوزير القطري، وإن كانت لم يتسرب عنها شيء، إلا أنها قرئت كسير في الاتجاه المعاكس لحراك السعودية الرامي إلى توسيع حلفها في الحرب على قوات علي عبد صالح وحلفاؤه الحوثيون. وكان آخر تجليات غياب الود في هذه العلاقات الوصول المتأخر و" المتثاقل " للأمير القطري لمطار نواكشوط والرئيس الموريتاني يستقبل ضيوف القمة العربية في خيمتها، ثم انسحابه دقائق بعد افتتاح القمة كتصرف أراد منه أن يكون هو الحدث الأهم من موافقته على حضور القمة أصلا وقدومه..
لا خلاف في أن العلاقات الاقتصادية في عالم اليوم هي القاطرة التي تجر بقية أوجه ومجالات العلاقات، ولا علاقات اقتصادية أو دعم مالي أساسا إلا بشروط أو خلفيات مرحلية أو استراتيجية، شروط تفرضها القوى الكبيرة بنفوذها وقوتها العسكرية والدبلوماسية، بينما تستخدم فيها الدول التي لا تمتلك ذلك النفوذ العسكري أو الدبلوماسي مواردها المالية لدعم بقية البلدان مقابل شروطها. وهنا ترى وتُقدر تلك البلدان أي الشروط أخف، وكلما كانت تلك الشروط من النوع الذي يصنف كتدخل في الشأن الداخلي للبلد أو العمل على تغليب أحد كياناته العرقية أو المذهبية أو السياسية بما يشوش على الحياة السياسية والاجتماعية فيه، بل ويهددها أحيانا، كانت شروطا أثقل وغيرها أخف.. وهذا هو ما بنيت عليه العلاقات الدولية التي لا يمكن أن تستقيم إلا بالمبادئ والمواثيق التي تنص عليها كل الهيئات والمنظمات الإقليمية والدولية وهي عدم الاعتداء والاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وما عدا ذلك هو ما يجب، أو يمكن، أن تدور فيه العلاقات الدولية من مصالح وأحلاف وتوازنات ليحدد كل بلد أين تكمن مصالحه، أما المشاعر والعواطف فلها هي الأخرى المواقف التي تتخذ على أساسها، لكن على من يتحرك من منطلق عواطفه ومشاعره أن يستحضر مصالحه، ونتكلم هنا عن بلد وليس فردا أو منظمة أو حزبا داخل ذلك البلد..
ولا ننسى أن العواطف والمشاعر هي التي قادتنا كنظام وشعب بداية تسعينات القرن الماضي لإعلان دعم صدام حسين في احتلاله للكويت، وهو الدعم الذي لا ولم يفد العراق في شيء، فلا نحن بلدا مجاورا للعراق يمكنه مساعدته بغلق حدوده أو أجوائه أمام غزوه على الأقل، ولا نحن قوة عسكرية أو مالية ستساهم في صد الغزو أو تساعد في أعباء الحرب، فضلا عن أن الأمر يتعلق باحتلال بلد شقيق لبلد أخر شقيق! وكان الأفضل إعلان الحياد أو الصمت بدل ذلك القرار الذي كلفنا حينها حصارا خانقا من طرف دول الخليج والهيئات الدولية المؤتمرة بأمرها، وبذل الكثير من الجهود وانتظار الكثير من الزمن للتغلب على الآثار السلبية لذلك الموقف. وقد يقول قائل بأننا اليوم في نفس الموقف حيال خلاف بين بلدان عربية إما أن نكون على مقدرة للمساهمة في تسويته ونقوم بذلك أو نلتزم حياله الحياد، لكننا لا نعرف بعد ماذا لدى موريتانيا من أسرار وكواليس " غير مريحة " لعلاقاتها بقطر تجعلها تقرر " الراحة " من تلك العلاقات.