تقول لغة العرب إن "الجيم والنون والباء أصلان متقاربان أحدهما الناحية، والثاني البعد، فأما الناحية فالجناب؛ يقال هذا من ذلك الجناب، أي الناحية، وقعد فلان جنبة أي اعتزل الناس" مطبقة على أن "الجنوب ريح تخالف الشمال".وقال لغة العرب إن "الأجنبي والأجنب من يرفض الانقياد" و"المجنب الشيء الكثير يقال خيرا مجنبا وشرا مجنبا".
وأضاف الواقع للغة العرب أن الجنوب إقليم انفصالي تسكنه مجموعة مختلفة عن بقية السكان عرقا أو دينا أو مذهبا، وتسعى بشكل دائم لإثارة القلاقل، وقد تتعرض –بسبب ذلك- ودونه أحيانا لمضايقات تصل درجة الحرب، والتصفية والتهجير. وأبرز أمثلة ذلك اليوم ما يجري في السودان، فدولة "جنوب" السودان أصبحت واقعا بعد أن مرت بالكثير من المراحل السابقة، وجنوب اليمن "يموج بحراكه" الذي لا ينتهي إلا ليبدأ، ليستعيد – ما يقول أهل الجنوب – إنه الوضع الأصلي للجنوب، وهو الانفصال وإقامة دولة مستقلة عن الشمال، لن تكون هي ولا أختها في السودان بمأمن من حراك آخر يأتي من جنوب الجنوب، أو إعادة اللعبة جذعة، والدخول في مواجهات تتبعها مضايقات وقتال وتهجير، ثم مصالحة وانفصال... وهكذا دواليك وبعيدا عن اليمن والسودان، في المملكة المغربية يمارس "الجنوب" تعريفه اللغوي ومعناه الواقعي من خلال السعي للانفصال، بعد أن مر بالمراحل الأخرى سابقا، فقد كان أديمه موطنا لمواجهات عديدة، انتهت بهجرة بعد سكانه لما يسميه المغرب أراضي جزائرية، وتسميه البوليزاريو أراضي محررة في جنوب الجنوب، ويستمر المسلسل في عرضه، وتتوالى حلقاته، في سعي من "الشمال" للسيطرة على "الجنوب" وإبطال التعريف اللغوي الذي يقدم الأجنبي والأجنب على أنه من يرفض الانقياد. وفي جنوب موريتانيا خاض الجنوب حتى الآن بعض حلقات المسلسل، واستمر عرضها "المر" لسنوات قبل أن يتوقف، فكانت التصفية والقتل والتهجير... كما عرفت مطالبات –خجولة على غير العادة- بالانفصال، قبل أن يستعيد جنوب البلاد شيئا من العافية، وهدوء يكشف توقف "عرض الحلقات" وليس المسلسل ككل، وما الحداد يوم احتفال موريتانية بخمسينية استقلالها من هذا الموضوع ببعيد، وكان للخطوات المتسارعة التي قادها رؤساء موريتانيا في الفترة في الأخيرة، من إعلان "عودة" منظمة للمهجرين، واستقبال كبير لهم وتنظيم صلاة الجنازة على من قضى منهم دور كبير في "تخفيف مشكل الجنوب" وسعي لعلاج مشكل "عربي" أثبتته لغة الضاد وعضده الواقع العربي في دول عديدة، يمتد تمثيله على الرقعة العربية من المحيط إلى الخليج. وفي جنوب العراق ولبنان، كان القتلى بمئات الآلاف في حروب لا تزال مؤشرات تجددها قائمة، ودواعي ودوافع ودعوات الانفصال غير بعيدة عنها، مع حديث عن عدد من المناطق الجنوبية في دول عربية أخرى كالجزائر وليبيا. فإلى متى يستمر الجنوب داخل الدول العربية يخالف الشمال، ويرفض الانقياد له، في تحقيق لتعاريف لغوية مرت عليها قرون عديدة، أم أن لعنة اللغة تحالفت مع سوء إدارة الواقع، وتكالب الأعداء، فأنتج التحالف "موضة" الانفصال، وخلق واقعا خيارته قليلة، لا تتعدى الموت في الجنوب بسبب الفقر والتخلف وقلة الحيلة، أو في مواجهة الشمال في حروب يخسر فيها الجميع، أو في زوارق موت "باتجاه الشمال المختلف" ينتهي أغلبها في بطون قروش المحيط، أو على الشواطئ جثثا هامدة، أو في أقبية الشرطة في انتظار رحلة "الهجرة جنوبا".