سيدي المفتى وظيفة العلماء ودور المفتين هي في المقام الأول نشر الدين والعمل على تحقيق وحدة الأمة وحمايتها، وإطفاء الحرائق المشتعلة في جسمها باعتبارهم وارثوا مراث النبوة، والحاملين لمنهج الهداية البشرية، الموقدين في الأمة لمشعل الدعوة بهداية النبوة، يحجزون الظالم عن ظلمه، والطاغي عن طغيانه، يدعون مَنْ ضلَّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى،
ويبصِّرون بنور الله تعالى أهل العمى، ويقفون في وجه من تجبر وطغى، فكم قتيلٍ لإبليس قد أحيوه؟!، وكم ضالٍّ تائهٍ قد هدوه!، وجائع قد آووه، ينفون عن كتاب الله تعالى وسنة نبيه وقيم وتطبيق دينه تحريف الغاليين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين؟.
فما أحسن ما نرى في تاريخ الإسلام من آثار العلماء الربانيين على الناس، وما أخس وأقبح ما نرى من جهد وعمل السلطان لغوايتهم وإضلالهم، وبيع بعضهم دينه بدنيا غيره، ويكفي في تعظيم شأن العلماء وبيان شرف وظيفتهم وعِظم مسؤوليتهم وأهمية دورهم ما وصفهم الله به في مواضع كثيرة من كتابه، وبينه رسوله- صلى الله عليه وسلم- في أحاديثه العديدة، والتي بينت مع القرآن أنهم هم من يخشون ربهم، والذين يقيمون شعائر دينهم"ورثة الأنبياء".
فوظيفتهم في القرآن ودورهم في السنة أنهم حيثما وقعت الفتن واختلطت الأمور واحتاج الناس إلى المصلحين والهداة ولم يجدوا أنبياء لله ورسله، قصدوا ورثتهم الذين يقولون بقولهم ويدلُّون على هديهم، ويتمثلون منهجهم، وليست تلك المنزلة لغيرهم، وإن سُئلتَ عن السبب فـقل قال الله تعالى:{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[. وقال:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}،؟ وعن الإمام المبتلى في حياته وجسمه بسبب تعذيب الحكام المعارض لسياساتهم، مالك بن أنس قال: إن العلم ليس بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يجعله الله في القلب .
ومعنى وراثة العلماء للأنبياء أنهم هم الذين يرثونهم من جهة العلم بالوحي، بشقيه الكتاب والسنة، والعمل لهداية الخلق بالأحكام الشرعية، ويقتدون بهم في العمل في السرِّ والعلن، ويلتزمون منهجهم في الرضا والغضب والمنشط والمكره، ولا يكونوا كمَنْ:{يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} أو كمن:{أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ}،أو كمن تعامل مع الوحي بمنهج المقتسمين{الذين جعلوا القرآن عضين}، أي أجزاء وتفاريق:{يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض}، وقال الله تعالى فيهم وفي من يوافقهم ويتابعهم:{ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب}، والخزي معناه هو: اجتماع الخوف والذلة والحقارة، فإذا اجتمعت هذه الصفات كان الحاصل: هو الخزي .
والعلم بوحي الله هو مصدر تشريف الحق جل وعلا للعلماء، علمان ينبغي أن يجتمعا في العالم، وكذلك العمل، فأما العلم فعلمٌ بواقعه الذي يعايشه وعلمٌ بحكم الله الواجب تنزيله عليه، وكذلك العمل يجب أن يكون عملاً بمقتضى العِلْمَيْن، خشية وطاعة ونشرا للخير وتعميما للبر، ورفضا للظلم .
والعلم الذي هو سبب التشريف وعلة التكريم قد يكون للعالم سبباً لشقاء الدنيا وعذاب الآخرة، وموجباً للذم والمهانة عند الله وعند الناس إذا لم يقترن به من العمل ما ينفع صاحبه وأمته من بعده، بل قد يكون صاحبه من أول مَنْ تسعَّر بهم النار، قال تعالى:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}،.
وقد ورد من حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح، في شأن أول من تسعر بهم النار:"..ورجلٌ تعلَّم العلم وعلَّمه وقرأ القرآن فأتي به فعرَّفه نعمَه فعرفها، قال فما عملت فيها ؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال كذبت، ولكنك تعلمت ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل ثم أمر به فسُحبَ على وجهه حتى ألقي في النار".
والفقه والعلم بوحي الله هو الذي يجعل العالم الرباني في علم وإدراك ووعي بأن الله جل في علاه، والذي لا معقب لحكمه قد قدر في الأزل وكتب في السجل امتحانا وابتلاء أن تفترق الأمة إلى شيع وطوائف وأحزاب، قال تعلى:{ ولو شاء ربك لجهل الناس أمة واحدة}، وقال:{ ولا يزالون مختلفين ولذلك خلفهم}، والحق أن ذلك هو أبرز سبب من أسباب تحقيق عبوديتهم، إذا وفق فقهاؤهم لفقه دورالتنوع والتباين في إدراكهم ووعيهم وأساليبهم وعملهم في الطاعة والعبادة، كما هو في المقابل السبب الأبرز لهلاكهم إذا لم يعلموا السنن ويفقه الأحكام والشروط المطلوبة؟!
عن ثوبان - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:"إن الله زوي لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارهاـ أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا"الحديث أخرجه مسلم في صحيحه، وفي رواية أبي داود زاد" وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي ولا تزال طائفة من أمتي على الحق قال ابن عيسى ظاهرين ثنا اتفقا لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله".
وفي الحديثٍ الجامعٍ المبين لأسباب هلاك الأمم وزوالها، يحذر النبي- صلى الله عليه وسلم- أمته وينذرها من خمس خصال مهلكة، فعن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما - قال: أقبل علينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا معشر المهاجرين، خمسٌ إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم يُنقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم"، رواه ابن ماجه في سننه.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم –يقول:" إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا"،صحيح مسلم .
وأهل السنة من المسلمين كان نصيبهم من الابتلاء والفرقة عظيم، فقد انقسموا في مبتدأ أمرهم إلى فرق ومذاهب من حيث الفهم والاجتهاد والتطبيق، لكن الخلاف كان نظريا ونقاشه في الغالب فلسفي فكري، وجدل فقهي في التطبيق والممارسة، ولم يصل أبدا في التاريخ إلى حالة التكفير والعداوة والحرب كما حصل بعد سقوط دولة الخلافة الإسلامية في بداية القرن الماضي، ومع الجيل السادس من أجيال المدرسة الفقهية وحتى الفكرية السلفية، التي تمثلونها اليوم سيادة المفتي والتي تتبنى منهج التكفير والتضليل في داخل البيت السني، قديمه: المعتزلة، والأشاعرة، والماتوريدية، والصوفية، والفلاسفة، والآراء الفكرية، والحديثة: الحركات السياسية القومية، والجماعات الإسلامية الإخوانية، وحتى فروع المدارس السلفية، بدل أن تهدوها وتعملوا على إنقاذه، ودون الدخول في الحروب معها، وكما هو منهج السلف في الدعوة والإصلاح، فكان الحصاد المر سيدي المفتي هو اشتعال النيران والحروب في عالم أهل السنة، فكانت النكسة والهزيمة البشعة التي تعبر عن طرف منها فتواكم الظالمة الفاجرة البائسة، بشأن الحصار والحرمان الذي فرضتموه على إخوانكم في الدين وجراكم القطرين ومن هو على أرضهم من المسلمين وغير المسلمين، وقد كان القائد المسلم أبو مسلم الخراساني يقول: في أسباب هزيمة قومه، وبيان العوامل والدوافع الكامنة وراء ذلك، أن قومه عادوا الأصدقاء وبقي الأعداء أعداء، تماما سيدي المفتي وكما هو حالكم اليوم والتاريخ يعيد نفسه:{ والله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون}.
سيدي المفتي بجواز ومشروعية ما هو من أصول الكفر وأسباب دخول النار: قطع الأرحام، وحرمان الجار، ومنع إطعام الطعام، الذي يمثله منكم حصار دولة قطر لا لشيء إلا لأنهم قالوا ربنا الله، ونحن عبيد له وحده لا شريك له، ونصروا المستضعفين والمظلومين من أتباع دينه وبقيا من المستضعفين من عباده، وخدمة القيم الإنسانية المشتركة في الحضارة البشرية: الحرية، والعدالة، ونصرة المظلوم، وإطعام الجائع والفقير والمسكين، وكل المحاصرين من أصحاب الملة والدين، وعدم إبسال البريء بجريرة ظلم القريب والجار الظالم البعيد، كان ابن عمك العلامة المفتي خادم الدعوة، وناشر المنهج، محمد ابن إبراهيم آل الشيخ يقول: إن أهم صفات العلماء الربانيين الذي يُنتظر منهم أن يقودوا الأمة - ولاسيما عند الاختلاف والاضطراب- هي صفة"الخشية"، والتي جعلها الله من أخصِّ صفاتهم كما في قوله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، ولذلك قال الإمام المبتلى في دينه الرافض لضلال حكام زمانه أحمد بن حنبل لابنه عبد الله لما سأله عن معروف هل معه من العلم شيء؟ قال: معه رأس العلم: الخشية.
ومردُّ ذلك أن أهل الخشية من العلماء هم الذين يصدرون فيما يقولون ويفعلون عمَّا يوافق الدليل ويحقق المقاصد العليا للدين، مما يدفعهم إليه اجتهادهم الصحيح، دون مداهنةٍ لأحد أو خوفاً من أحد، ومن غير أن يتطلعوا لعرضٍ زائلٍ مهما بلغ، فإن مقتضى خشية الله في قلوبهم أن لا يلتفتوا إلى أهوائهم ولا أهواء غيرهم من الخاصة أو العامة.
ومتى ما كانت مواقف العالم تحقق ذلك وتتصف به كانت الأمة أقرب للنجاة، وأقواله هو الصق بالحق وأقرب إلى الصدق والثبات، وأحرى أن تطمئن لها النفوس وتجتمع عليها القلوب.
سيدي المفتي إن المراد من العالم أن يقوم بما يستطيع، وهو معذورٌ فيما لا يحسن، {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}.
أما إذا استطاع العالم وقَدِر فإن المرجو منه شمولية الأهداف والمشاريع، والمنتظَر منه إصلاح واقع الأمة بكل مجالات ذلك الواقع واتجاهاته، والابتعاد عن خدمة الظلم والطغيان، والوقوف إلى جانب المظلوم والمحروم؟.
ولنتأمل حال شيخ الإسلام ابن تيمية، تلمس أثره ظاهراً في التأصيل للمسائل العلمية والعملية، الدقيقة والجلية، وكذلك في تبني مشروعات عملية؛ منها التعبدي الخاص به، ومنها ما يتعلق بإنزال التأصيل العلمي الذي يقرره إلى أرض الواقع، فتراه مثلاً يقرر مسائل الاعتقاد ثم يدعو إليها ويناظر عليها، وتراه كذلك يؤصل للسياسة الشرعية، ثم لا يألُ جهداً في مناصحة الأمراء والولاة والقضاة، وأكثر من ذلك تراه يتولى زمام الدعوة إلى شن الحروب على العدو المتغلب، وينخرط في برامج تدريبية تؤهل الناس إلى ذلك، ثم يحرض الناس على اختلاف طباقتهم للمشاركة في وقعة شقحب، بل يقود الجيوش والمعارك، ثم يوجه الدولة نحو خطر أهل النفاق المظاهرين للعدو من رافضة جبل كسروان، مع جهوده وطلابه في إنكار المنكرات.
وفي أثناء ذلك كله يبين قراءته للأحداث ويطرح رؤيته لتوقع سيرها، وقد كانت عنده من الوضوح بمكان يجعله يقسم على بعضها متفائلاً بتحقق النصر وهزيمة العدو، على رغم اضطراب الأوضاع في عصره بما يشبه حال الناس اليوم فما أشبه عصره بعصورنا في كثير من القضايا كشيوع الجهل، وانتشار المنكرات العقدية والعملية والأخلاقية، وضعف الأمة وانكسار شوكتها، وتغلب العدو المغولي المحتل عليها، وتنازع الملك بما يشبه الانقلابات العسكرية المعاصرة، وإغارة الأمراء على الأقاليم.