تشهد موريتانيا منذ مدة ثورة في الإنتاج الكوميدي، كما شهدت في السنوات الأخيرة إنتاج دراما موريتانية
شبه تجريبية كسرت بظهورها بعض القيود المجتمعية؛ التي من أبرزها فرض مشاركة الفتاة الموريتانية في الأعمال التمثيلية الجديدة على المجتمع الموريتاني، إلا أن أغلب تلك الأعمال الكوميدية والدرامية لم تعط المتوقع منها رغم الفرص الكثيرة المتاحة لها،
بل لم تتجاوز حتى الآن مرحلة النقد السطحي المكرس لصور نمطية مزعجة.
انطلاقا من عدم التخصص في المجال فإني لن أتناول الموضوع من الزاوية الفنية التي نشاهد يوميا انزعاج
المختصين منها، كما أني لن أركز على التقليد غير المحبوك والواضح لكل المتابعين، إذ سأتناول
الموضوع فقط من زاوية الاستهداف والتحامل المتكرر في تلك الأعمال على البدوي القادم للعاصمة نواكشوط من الريف، والصورة النمطية المتشكلة عن ذلك.
مع بداية كل موسم رمضاني تقدم لنا القنوات الموريتانية إنتاجاً كوميديا/دراميا لا يختلف عن إنتاجها في
السنوات السابقة في مشاهد عدة؛ ولعل أبرز المشاهد المشتركة تلك تقديم البدوي على أنه إنسان ساذج و محاولة تأكيد ذلك الافتراء بتنكيت سخيف من قبيل أنه لا يعرف طريقة تشغيل الكهرباء والتلفزيون وطبخ الأرز بالسمك إلى آخر قائمة الاختبارات المضللة.
محاولات إثبات السذاجة هذه غير منطقية وغير منصفة إطلاقا،ً فكيف ننتظر منه، وهو القادم للتو من
مناطق داخلية محرومة منذ نشأة الدولة من حقها في الكهرباء والثروة السمكية، أن يكون على إطلاع بهذه
الأشياء التي ما كان للساكن النواكشوطي عموماً أن يتعرف عليها لولا الحرج السياسي الفاضح للسلطة في
ظل غياب الكهرباء عن عاصمة البلد - وإن كان حضورها حتى الآن حضوراً صورياً - وضرورة تسويق
السمك في عاصمة شاطئية.
إذا افترضنا أن معيار إثبات السذاجة هذا صحيح فذلك يعني أيضاً أن كل ساكن لانواكشوط هو إنسان ساذج
عندما نضع بين يديه فجأة منتجا إلكترونياً حديثاً قبل توزيعه في الأسواق وعرضه في الإعلانات التجارية
التلفزيونية؛ فقط من مصنع الشركة المنتجة بألمانيا أو اليابان إلى المستهلك المختبر، حتى لو كان مولوداً
بالعاصمة وعلى اتصال مباشر بأكثر الموضات الاستهلاكية شيوعًا.
التحامل على المواطن البدوي في تلك الأعمال لا يتوقف على وصفه بالإنسان الساذج، بل يتعدى ذلك
بإضافة مشاهد تقدمه في صورة متسول مزعج يقوم باقتحام بيوت سكان العاصمة منتهكًا خصوصيتهم،
وتتجاهل هذه المشاهد أبعاداً كثيرة لو تم استحضارها بطريقة منصفة في العمل التمثيلي لما كان هناك
استغراب لتلك التصرفات الطبيعية جداً. من تلك الأبعاد مثلا العلاقة الأسرية العريقة التي تربط الضيف
بالمضيف في أغلب الحالات، والتي تستغلُّ من الطرفين، لأنه عادة ما تكون زيارة الضيف "المزعِج" -
حسب العمل الكوميدي/الدرامي- قد جاءت بعد أقل من سنة على زيارة المضيف "المزعَج" حسب العمل
نفسه- لربوع البدوي حاظياً بترحاب كبير وضيافة تعتبر في عرف سكان البادية من حقوق الضيف بغض
النظر عن هيئته وحالته المادية. ومن العار أن يعتبر ذلك تسولاً. كما أن كل الأخطاء التي يقوم بها الحضري
الضيف نتيجة لعدم معرفته بثقافة سكان البادية تفهمُ من قبل البدوي بصدر رحب دون وصفه بالساذج أو
المزعج.
يمكن القول أن تلك الأعمال بشقيها الكوميدي والدرامي غير موفقة نظراً لقيامها بترسيخ ثقافة فوقية
مخجلة، والتأكيد على صورة نمطية عجائبية خصوصا في عقول الأجيال الصاعدة؛ التي لم تتعرف على
حقيقة البدوي وطريقة حياته وذلك بفعل القطيعة المفروضة عليها من طرف الوعود الرأسمالية الكاذبة
ومطاردة الرفاهية اللامستقرة.