عندما يُدار قطاع الزراعة بعقلية بائع خام الحديد / الهيبة سيد الخير

يشمل قطاع الزراعة بمفهومه الواسع وقطاعاته الرديفة أربع وزرات هي: الزراعة والبيطرة والصيد البحري والبيئة والتنمية المستدامة، ويتميز هذا القطب بكونه يضم قطاعات حيوية مستدامة وحساسة وهشة، فهي تضم كائنات حية وتتأثر بعوامل طبيعية يصعب التحكم فيها، مما يتطلب موديلات تدبير معقدة، كما أنها ذات بنية اقتصادية متشابهة من حيث درجة تثمين منتجاتها، ومستوي حرفية العاملين فيها، وأثرها وإسهامها في الاقتصاد الوطني.

يكتسي هذا القطب أهمية قصوى بالنسبة لكل بلدان العالم، فهو أحد ركائز التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، كما انه صمام امان ضد التقلبات الاقتصادية والاجتماعية والازمات السياسية، بالإضافة الي انه أحد الركائز الهامة للتنمية الصناعية.

يساهم هذا القطب بحوالي ربع الناتج الوطني الداخلي، ويلعب دورا هاما في محاربة الفقر، وتمكين الشرائح الهشة، مما يجعله نظريا على الاقل الرافعة الرئيسية في الجهد الحكومي ويمكن لهذا القطب ان يحقق تنمية مستدامة ومتوازنة وعادلة ومنصفة، كما يُعد قطاعا ضامنا لاستمرارية النمو الاقتصادي، باعتبار أنه يتميز باستقرار نسبي إذا ما قورن مثلا بقطاع الصناعات الاستخراجية، لأن منتجاته لا تعرف الكساد.
يعد الاستثمار في هذا القطب أحد الضمانات الرئيسية للتوزيع العادل والمنصف للثروة، حيث يمكن وصفه بمظلة الفقراء والمهمشين في المجتمع، فظلاله الوافرة تقي من الحرارة المهيجة للمطالبات الاجتماعية العنيفة، وهو أفضل وأنجع ساعي بريد قادر علي الوصول الي الفقراء بما يضمن حقهم وكرامتهم.
سعت كل دول العالم لإعطائه العناية الخاصة فتم استثناؤه من الكثير من القوانين التجارية، كما تم منحه العديد من الامتيازات والتفضيلات، ويمكن لمس تلك العناية في فرنسا واسبانيا والارجنتين والسنغال والامارات والمغرب ومالي...الخ.
ماذا عن موريتانيا؟
لم تعرف السياسات العمومية في هذا المجال انسجاما ورؤية واضحة للاستفادة من المزايا والفرص الكبيرة التي يمكن ان يوفرها هذا القطب لبلادنا، وان كانت هنالك استثناءات في عقد الثمانينات من القرن الماضي في قطاعي الزراعة المروية والصيد البحري.
تعيش قطاعات هذا القطب اليوم شللا وضعفا وتخبطا، انعكس على ادائها، فأصبحت في طي النسيان بالرغم من ان السياسة الحكومية العامة تنطلق من قاعدة محاربة الفقر، فيما يُعد تناقضا بينا، فمن يريد محاربة الفقر فلا يمكن ان يهمل هذا القطب.
عند النظر في السياسات المتبعة كتعطيل القرض الزراعي، وانهاء عمليات شراء الأرز، وفوضي النسيج التعاوني، والاستثمارات الفاشلة التي هدرت الاموال العمومية الموجهة لهذا القطب كمصنع البان النعمة، ومشروع زراعة السُكر، ومصانع انتاج الاعلاف، والاستصلاحات الزراعية الفاشلة كبوكمون وايرمبار وقناة لمصيدي، يمكن استنتاج ان المشكلة تكمن في ضعف التخطيط المركزي وعدم حرفية القائمين عليه.
اسباب ضعف التخطيط
اعتقد ان القائمين على التخطيط المركزي في جلهم قادمون من قطاع الصناعات الاستخراجية، ومن شركة اسنيم تحديدا وبالرغم من كفاءتهم العالية، الا انهم لا يملكون المهارات الضرورية لبناء مشاريع مندمجة تتداخل فيها الابعاد الاجتماعية والبيئية والعوامل الطبيعية.
ان ضعف وسلبية ادارات التخطيط في الوزارات المعنية، وعدم اختصاص وحرفية جهات التخطيط العليا، شكل كارثة ادت لأخطاء جسيمة يصعب تفسيرها في الوزارات الاربع، وسنذكر امثلة تبين ذلك:
وزارة الزراعة: فضيحة زراعة القمح والبطاطا
تبنت الوزارة برنامجا وطنيا لزراعة القمح دون ان تملك اصنافا تتلاءم مع بلادنا، ودون ان تكون هنالك سابقة لزراعته في شبه المنطقة، ودون ان تكون هنالك اراض لزراعته فهو سيزرع على اراضي مخصصة لزراعة الارز!، ودون ان تكون لدي الفلاحين المهارات الضرورية والاهم من ذلك عدم التدرج في عملية الادخال، والنتيجة كانت كارثية وينطبق ذات الشيء على البطاطا في مزرعة كنكوصة، ان تنفيذ هذا البرنامج لا يمكن ان يتم في بلد له ادارة تخطيط مركزي او ادارت فنية، اللهم ان كانوا تحت تأثير تخدير ما.
وزارة البيطرة: فضيحة مصنع البان النعمة
قام الهنود بطلب من بلادنا بتمويل وبناء مصنع بطاقة 30 طنا يوميا، وعندما سلموه، بدأت الوزارة في التفكير في كيفية توفير الحليب له، ولازالت تفكر الي اليوم، هل يُعقل ان يحدث هذا الامر في بلد يحوي ادارة تخطيط واحدة!؟.
وزارة البيئة والتنمية المستدامة: فضيحة عدم احترام بنود الاتفاقيات الناظمة لحوض آركين
حوض آركين محمية بيئية عالمية حسب معاهدة رامسار واتفاقية اليونسكو التي تصنفها ارثا طبعيا عالميا، بالإضافة الي انها هدية لقمة الارض، وبالرغم من ان بلادنا وقعت طواعية على تلك المعاهدات، الا انها بدأت في عدم احترام بنودها، مما دفع اليونسكو الي ارسال 18 ملاحظة، الامر الذي اضطر الحكومة الي انشاء لجنة من عدة وزارات وبرئاسة معالي الوزير الاول لتدارك تلك الاخطاء ،وحشد العرب والاصدقاء لدعم بلادنا في الجمعية العمومية لليونسكو ،ولازالت المشكلة مطروحة وسيبت فيها عام 2018، يصعب فهم عدم احترام السلطات العمومية لبنود اتفاقية وقعتها طواعية، لكن ضعف التخطيط المركزي وسلبية الادارات الفنية سبب لنا هذا الحرج الكبير الذي كنا في غني عنه.
وزارة الصيد والاقتصاد البحري: فضيحة طرد الصيادين الاجانب
عكس القرار السيادي القاضي بطرد الصيادين الاجانب ما يلي
• عدم دقة الارقام والبيانات التي بحوزة القطاع
• فشل منظومة التكوين على مدي عقدين من الزمن
• قلة كفاءة وحرفية المسؤول عن اتخاذ القرار
• ضعف النسيج التعاوني وعدم تمثيله الحقيقي للعاملين في القطاع
لم يكن هذا القرار ليتخذ بشكله الحالي، لو ان ادارة التخطيط المركزي كانت بالكفاءة المطلوبة، مما سبب ارباكا شديد للقطاع، وافلاس العديد من الفاعلين الصغار، ناهيك عن تداعياته السلبية العديدة الأخرى.
وحدة تخطيط مركزية هي الحل
ان تشابه القطاعات المذكورة آنفا من حيث ارتباطها الكبير بالعوامل الطبيعية والاجتماعية ودرجة نضج العاملين فيها، وتماثل ادوارها الاقتصادية والاجتماعية، ومحاربتها للفقر والتهميش، وقدرتها على التوزيع العادل للثروة، بالإضافة الي وجود معارف تقليدية لدي السكان بها، يجعل منها قطبا خاصا يحتاج الي وحدة تخطيط مركزية مشتركة، قادرة على الاستجابة لخصوصيتها، مما سيركز الجهود الوطنية ويرفع من كفاءة ادارة المشاريع الاستثمارية المنجزة ويضمن نجاحها.
ان النكسات الماضية يجب ان تكون المحفز لا جراء جرد حساب، وتحديد الخلل، واتخاذ الازم، وسيكون كل ذلك طبعا بعد التوقف عن ادارة هذا القطب بعقلية بائع خام الحديد.

 

22. يونيو 2017 - 10:19

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا