لم يحدث في التاريخ السياسي العربي انتقال السلطة بالطرق العادية والمتعارف عليها، مثل انتهاء ولاية الحكم، أو الهزيمة في الانتخابات، أو التنازل بعد ثبات عدم القدرة على مزاولة مهام الإدارة والحكم بسبب الشيخوخة أو المرض. كانت دائما سبل انتقال السلطة محصورة في معالم بات يعرفها القاصي والداني وهي الموت الطبيعي أو الموت غير الطبيعي، والاغتيالات السياسية ومنها العادة القديمة في ثقافة العرب التي يطلق عليها الثأر،
وأخيرا الانقلابات العسكرية بأشكالها وألوانها البيضاء والصفراء والحمراء. رغم ذلك كانت هناك حالة أو حالتين استثناء، ولكن كما يقال الاستثناء لا يقاس عليه حتى يصبح قاعدة.
يتبع هذا الأمر أن جل عمليات انتقال السلطة تتسبب في مغادرة وإبعاد الانظمة المقالة إلى المنفى وهو أمر لا يتشابه إلا مع أنظمة الاحتلال التي تعود إلى أوطانها بالفعل بعد خدمتها باحتلال أوطان الاخرين ونهب خيراتها واضطهاد شعوبها. فتاريخيا قل أن يحدث شيء من هذا القبيل دون أن يصبح الشخص الحاكم الذي كان يطلق عليه الرئيس، وأفراد أسرته السيدة الأولى، ابن الرئيس، بنت الرئيس، أو الأسرة الحاكمة التي كان يطلق على أفرادها لقب الأمراء، الأمير والأميرة، في عداد الموتى أو في المنفى؛ وهي قسوة مرة ممن كانوا بالأمس القريب رعايا أو مواطنين أو إخوة، لا يقابلها إلا قسوة الانظمة على اوطانها عند مغادرتها لها لأن كراسي الحكم لم تعد تسعفها، أو عندما تصبح تلك الكراسي في تصورها مساوية للوطن.
القطر الموريتاني الذي هو موضوع هذه المقالة لم يعرف عبر تاريخه أي شكل من أشكال التداول على السلطة. ظل هناك اسلوب واحد وهو الانقلابات العسكرية البيضاء باستثناء تجربة انتخابات 2007 التي جاءت برئيس مدني يقال إنه محسوب على العسكر، فهو على الأقل لم يأتي من أحزاب المعارضة كما أنه لم يكن معروفا في الساحة السياسية في البلد قبل ترشحه. القطر الموريتاني كذلك تميز بأن عمليات انتقال السلطة التي كانت تحصل تقود إما إلى إحالة الرؤساء المقالين إلى السجن أو إلى المنفى، أما حالات الموت فهذه لم تحدث قط لا عادية ولا غير عادية، ومما يتعلق بهذا الأمر وجوبا قيام النظام الجديد بعملية مسح الطاولة على النظام السابق بما في ذلك حزبه السياسي وفلوله.
القطر الموريتاني أيضا يسهل فيه عملية بناء وهدم الأنظمة السياسية. فتاريخيا لا يتطلب الأمر جهدا كبيرا، ثلاث خطوات فقط: انقلاب عسكري أبيض، زعيم الانقلاب يصبح رئيس الدولة، تأسيس حزب سياسي يضمن استمرار الرئيس في الحكم مستقبلا. وبهذا يصبح النظام الجديد نظاما ثوريا ساخطا على جميع الانظمة السياسة السابقة، ويستمر في السلطة حتى موعد جديد مع انقلاب عسكري. حصل هذا الأمر منذ المحاولة الأولى للتعددية السياسية في عهد الرئيس السابق معاوية ولد سيدي احمد الطايع (الذي جاء إلى السلطة بانقلاب عسكري ابيض 12/ 12/ 1984)، وكان أول من سمح بالتعددية السياسية شكلا، وعوضا عن ذلك أسس الحزب الجمهوري الذي بقي في السلطة إلى تاريخ الانقلاب عليه ومنفاه خارج البلاد 2005، وتكرر هذا الأمر مرة ثانية مع الرئيس الحالي (الذي جاء إلى السلطة بانقلاب عسكري ابيض 6/ 8/ 2008)، وأعلن عن حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الذي يحكم البلاد منذ ذلك التاريخ إلى اليوم، ويمارس الرئيس الان مهامه كرئيس للبلاد.
قبل ثلاثة أشهر تقريبا تم اسقاط التعديلات الدستورية من طرف مجلس الشيوخ الذي هو في الواقع مجلس النظام أو غالبيته، بوصفه ناتج عن انتخابات قاطعتها المعارضة في العام 2013، ومثل هذا الحدث التاريخي صدمة لنظام يجاهر بأنه لا يعرف الهزائم والانكسارات، واعتبرت "غزوة الشيوخ" غزوة صغيرة يمكن تجاوزها باستفتاء شعبي رغم تجرع مرارة تكاليف الاستفتاء المالية على المضض. الحدثان البارزان بعد معركة التعديلات الدستورية التي لا تزال مستمرة ولا نعرف الخاسر فيها من الرابح حتى الان، هو تجريد الوزير الأول السابق ومهندس النظام مولاي ولد محمد لقظف من منصبه أمينا عاما للرئاسة، والحدث الثاني هو تجريد مهندس الحالة المدنية أمربيه ولد الولي من منصبه هو الآخر وتركه يذرف دمعه عرضة لبطالة لا ترحم في بلد كموريتانيا لا توجد فيه الحلول الوسط. أما الحدث الأهم وهو ما تتداوله وسائل الاعلام هذه الأيام بخصوص ترجيح أن يكون الرجل الأول والشخص الثاني في النظام ولد محمد لقطف بعد تجريده من منصبه من ضمن خيارات المعارضة لرئاسيات 2019 وإن كانت شخصيات مهمة استبعدت ذلك.
لاشك أن تحولا كبيرا طرأ أو لنقل وضوحا، على النظام بعد زيارة الوزير الأول يحي ولد حدمين الأخيرة مسقط رأسه وعودته منها، وهو الذي لا يتوفر على اجماع حوله حتى من بعض أفراد عائلته المقربين فما بالنا بمن سواهم؛ والحق يقال بأن هناك مجهودات جبارة يبذلها النظام من أجل خلق تحالفات قبلية وجهوية وعشائرية يضمن من خلالها الاستمرار والبقاء وخصوصا بعد رئاسيات 2019 التي لن يكون الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز مرشحا فيها، وهي محاذير يدركها الخبير في السياسة الموريتانية التي غالبا ما يؤدي غياب رأس النظام إلى اضطرابات حادة، وهذا ما تقوله الخبرة التاريخية التي أثبتت أن بقاء الأنظمة السياسية كان دائما مرهونا ببقاء رأس النظام، وأن زوالها يكون بزواله. وعموما هذه الأيام ليس هناك شيء أكثر من الحديث عن فيديوها رئيس الدولة وهو يتجول بمفرده في اطلالة مبتكرة على شوارع العاصمة، وتوزيعه بعض الدريهمات على متسولي الشوارع، هذا الأمر يقودنا إلى تساؤل بدأناه ماذا يجري في موريتانيا؟.