حتى لا يتعود الكبار إهمال الأخلاق في العمل السياسي / سيد الأمين ولد باب

السرية في الديمقراطية غير مقبولة إلا في الاقتراع ...أما في المواقف فهي ضعف سياسي وأخلاقي يجب أن ينآ الكبار عنه لينضبط الموقف وينسجم مع القصد ، خصوصا إذا أريد إنضاجه في الحلف الواحد ، وفي هذا الإطار نسْتَبيِنُ الظروف والملابسات التي اكتنفت موقف الشيوخ من التعديلات الدستورية.
عندما قرر فخامة رئيس الجمهورية عرض مشروع التعديلات الدستورية المتضمن إلغاء مجلس الشيوخ 

علي البرلمان للتصويت عليه ، استدعي أعضاء مجلس الشيوخ المنضوون تحت لواء أحزاب الأغلبية: فردا فردا، وكان مضمون اللقاء يتعلق بطلب يوجهه الرئيس إلي الشيخ المدعو ، إما بأسلوب صريح وواضح يحدد المقصود :كأن يقول للشيخ إريد منك أن تصوت لصالح التعديلات الدستورية... وإما بأسلوب أكثر احتراما، كأن يقول للشيخ ـ مثلا ـ : أريد منك أن تتعاون معنا في هذه المرحلة فالبلد بحاجة إلي تكاثف الجهود والتماسك والوقوف وقفة رجل واحد ....
الرئيس يعرف جيدا بأن شيخ يفهم قصده ....والشيخ يعلم تماما ما يريد الرئيس من ذلك الطلب العام لأن موضوع الساعة هو عرض مشروع التعديلات الدستورية علي البرلمان ، وهو أمر يعني الشيوخ بالدرجة الأولي : من حيث أن القرار يلغي مؤسستهم ، ومن حيث أنه سيمر عليهم للتصويت ،فإذا كل من الطرفين يفهم قصد الآخر.
وكان من المنطقي والمقبول جدا ،أن يأتي رد الشيخ بنفس الأسلوب :إن كان العرض صريحا فيكون الرد صريحا ،وإن كان ضمنيا ـ فالمُضَمنُ معروف ـ وكان ينبغي أن يكون الرد الضمني تفهم منه الموافقة أو يفهم منه الرفض .
فإن كان الرئيس صارحهم بالأمر فلا غبار علي سوء تصرف الشيوخ ـ إن كان ردهم إيجابيا ـ وإن كان ضمنيا ، فكان ينبغي أن يأتي الرد بالإيجاب مثلا ضمنيا مثل القول :سنفعل إن شاء الله، أو سنأخذ ذلك بعين الإعتبار،أو الصمت ، أو ما أسبه ذلك ، مع تضمين الإستفتاء في تلك الأمور ، ودون الإصرار مسبقا علي موقف معاكس لأي مما هو ضمن جدول أعمال الحكومة المقبل.
وإن كان رد الشيخ علي نحو ما ذكرنا آنفا ، وكان يبيت موقفا لا يفهم من رده ، فذلك عيب كبير يأخذ علي مثل هؤلاء الشيوخ ، لأن طابع الجلسة وإن كان يرتكز علي فهم ما وراء الخطاب دون التصريح، ويكتفي فيه كل طرف بأن الآخر يفهم قصده ،فإنه ينبغي أن يفهم من الرد حقيقة الموقف ، وبالفعل فإن الرئيس لم يفهم رد كل شيخ إلا علي أنه موافق علي طلبه الذي فهمه الأخير جيدا ، الأمر الذي يعني أن حجة الشيوخ التي يتملصون بها من الإلتزام الضمني لرئيس الجمهورية ، لن تنجيهم من القدح في سلوكهم السياسي هذا .
فلو افترضنا أنهم لم يلتزموا للرئيس بالتصويت لصالح التعديلات الدستورية ، بحجة أنه لم يعرض عليهم ذلك الأمر بشكل مباشر، وهي حجة واهية ... فإنهم لا يمكن أن يتملصوا من تهمة تبييت نية التصويت ضد التعديلات الدستورية وهم يتلقون طلبا صريحا أو ضمنيا من الرئيس بالموافقة عليها ، ومعني ذلك أنه كان ينبغي علي كل شيخ التقي الرئيس ألا يستر موقفه المناهض ، خصوصا إذا كان قد علم بأن الرئيس مطمئن إلي قبوله الطلب ،وهو مصصم علي العكس .
هذا الأمر موجب لعدم كتمان الشيخ موقفه إن كان يتحلي بالأخلاق السوية ، فليس هناك ما يبرر كتمانه لذلك الموقف ،فلوكان الشيخ صادقا مع الرئيس وهو لايخشاه لتحليه بالشجاعة كما أظهر مؤخرا... لرد علي طلبه بما يفهم منه احتمال عدم استجابته لطلبه ، كأن يقول له مثلا بصيغة المفرد أو بالتفخيم: نحن معكم وهذا يفهم من كوننا في الموالات : نشجع ونوافق وندعم برنامج فخامتكم السياسي ،لكن لدينا تحفظ علي إلغاء غرفة الشيوخ،أويقول سيدي الرئيس غرفة الشيوخ إذ ألغيت فقد ألغي أملنا في السياسة . أو يقول يحتاج الأمر مني أن أفكر كثيرا ....وقد لا أصوت لصالح التعديلات التي تتضمنه مع كامل احترامي لكم، لكني أدعمكم فيما سواه ، أو ما أشبه ذلك من الخطاب المحترم اللين الصادق ، والقوي في نفس الوقت . هكذا يتعلم الأجيال الشهامة السياسية ممثلة في :وضوح الموقف ،وقوة الإرادة.
هذا لم يحصل بالتأكيد ، لأنه لو حصل ولو من إثنين أو ثلاث من الشيوخ لتنبه الرئيس إلي إمكانية ألا يصدقه البعض الآخر لأن نفس الإحساس عند غيرهم ولا تخذ التدابير اللازمة لذلك... فمفاجئة الرئيس من أعضاء حلفه  بإسقاط التعديلات الدستورية بعد أن استدعاهم خوفا من حصول ذلك ،يعتبر ـ أخلاقيا ـ خطأ فادحا.
عمل بما ينافي الأخلاق الحميدة !!.وإن كان يمكن تدارك نتيجته المباشرة المتمثلة في كسب ورقة ضد خصم سياسي قوي ـ عٌلم بأنها ورقة سياسية سُلبت منها روح الصلابة الأخلاقية ،وأنها واهنة وضعيفة الصدمة أمام القوة القانونية والشعبية للخصم ـ فإنه لا يمكن التغلب علي تداعيات ذلك الموقف السلبية إذا لم يٌشجب في وقت مبكر، وليس صعبا علي المُهتم بالشأن السياسي أن يفهم كل ذلك.
ولو أن حجم ضرر هذا التصرف السياسي يقتصر علي تلك المواجهة، لما كنا بحاجة إلي كتابة هذه السطور، لأن الموضوع تحت السيطرة مهما بلغت درجة التصعيد ،لكن هذا الفعل،من الأفعال التي تتعدي إلي مفعولين  بمنطق النحويين ، ويتميز بالاستمرارية حسب منطق القانونيين .
وإن السكوت علي تصرف الشيوخ هذا، يعني تشريع مدرسة في السياسة لا تهتم بالأخلاق ولا تعترف بغير المصلحة الشخصية قيمة لها معني ...!!: يفتك بالبنية الأخلاقية الصلبة التي ينبني عليها العمل السياسي في بلدنا ،وإذا لم نستهجنه ونمقته ونعترض عليه بأي أسلوب أو بأية طريقة ،سيصبح سابقة مقبولة لها حضور واضح وسط  دائرة كبار السياسيين في بلدنا ،فتنسلخ الأخلاق عن السياسة، وتمرق السياسة عن الأخلاق ،فيضيع القصد الجميل من العمل السياسي عند أصحاب القرار.
قد يعترض البعض علي هذا المضمون معتبرا أن السياسة :مكر وخداع ، وأن الأخلاق ليست شرطا لنجاعة العمل السياسي ،وأنها غير معتبرة أصلا عند من يمارسون السياسة عموما ، ويحتجون بالقول مثلا :إن المرشح للشيوخ عادة ما يبذل قصاري جهده ويرمي بكامل ثقله الاجتماعي والسياسي والمالي من أجل أن يجلب مستشارا من الحلف الآخر يصوت لصالحه ، حتي وإن لم يتمكن من ضمه إلي حلفه بشكل علني ،مما يعني أن المرشح عادة يشجع المستشارين علي الخيانة ، بل ويشتري حصولها منهم بالمال الكثير ،والمستشار بدوره يقبل أحيانا وبكل سهولة خيانة أصحابه ، ولم يكن هذا ملفتا؛ لذلك فإن ظاهرة شراء الذمم السرية هذه ـ وفي الوقت بدل الضائع وفي آخر لحظة ـ موجودة في العمل السياسي وهو ما يعني  أن الأخلاق ياعزيزي الكاتب لا مكان لها في السياسة عندنا.
هذا الكلام ليس صحيحا ، أولا :من حيث عدم المساوات في الدرجة بين مستشار عادي وشيخ كبير ، فيليق بالأول ما لا يليق بالثاني ، ويعظم من الثاني ما لا يلفت عند الأول ، ثانيا : ليس صحيحا أن المرشحين يستسهلون التجرد من الأخلاق بطيب النفس ، بالفعل قد يفعلوا وهم مكرهون،واقعون تحت ضغط الخوف من الفشل وعدم النجاح ، لكن مع تأنيب الضمير والشعور بالخطيئة .
هؤلاء يصعب عليهم استسهال ممارسة السياسة بمنآ عن الأخلاق الحميدة ، وإن أكرهتهم اللحظة سيبدر منهم يوما ما ينم عن عدم الرضي عن ما فعلوا ، مما يعني أن السياسة في بلادنا لا تخرج في الأصل عن نطاق الأخلاق ، مهما كثرت الاستسثناءات.
ولدي تجرية تثبت ما أذهب إليه من حقيقة التلاحم بين السياسة والأخلاق :ففي الانتخابات البلدية سنة 2007 كنت مستشارا في بلدية تمبدغة المركزية ، وكنت  في انتخاب العمدة وانتخاب الشيخ ضد حلف رجل الدولة المعروف بكل صفات الفتوة والقوة والقيادة :الشيخ محمد الأمين ولد سيد امحمد، ليس كرها له ولا استهجانا لعمله السياسي ، ولا لمرشح الشيوخ حمودي ولد الطالب اعمرالرجل الأصيل الطيب ، بل رغبة في منح الثقة للشباب وإعطائهم الفرصة لإثبات جدارتهم ، وأنهم قادرون بالفعل علي تحمل المسؤوليات الجسام ...

كان النظام بقيادة المرحوم أعل ولد محمد فال ، مصرا علي انجاح الشيخ محمد الأمين عمدة للبلدية ، فوصلتني الضغوط الكبيرة : البطاقة المهنية للسيد محمد الأمين ولد داهي الخبير القانوني الذي كان يصول ويجول في عدم دستورية الإستفتاء، وهو آنذاك مديرا لديوان رئيس الجمهورية ، تٌعرض عليَ لتأكيد التعهد بإرسال مذكرة تعييني مديرا جهويا للتعليم في آلاك فور قبولي العرض، وترتيب لقاء مع رئيس الجمهورية بعد انتهاء التصويت....
لم أستجب لذلك الترغيب ولا لغيره من الإغراءات الكبيرة.رفضت الإغراءات ونكيت الوجوه الطيبة الكريمة ،مكرها رغم أن لا خيانة في الأمر،لأن التحول المعلوم عن الموقف السياسي لا يعتبر خيانة ،لكنه قبيح وغير أخلاقي .
لقد عز علي أن أتخلص من موقف أنا مقتنع به  ـ وأري فيه خدمة للمستقبل السياسي...، طلبا لمصلحة شخصية ضيقةـ لم أستجب :لا كرها للتعيين وعدم الرغبة في القرب من القيادة الوطنية ،ولا ستسهالا لنكاية عِلية القوم من أصحاب العمامات والهامات السامقات ....

وفي انتخابات الشيوخ حصلت الضغوط الكبيرة ، لكن لم يبدر لي من أصحابها أنهم يريدونني أن أغدر بأصحابي ـ والشهادة لله ـ بل كان المطلوب هو أن أتحول نهارا جهارا عن حلفي وأذهب إلي الحلف الآخر، تماما مثل ماكان مطلوبا في معركة العمدة ، ولنفس السبب السابق رفضت .
وبعد انتهاء المرحلة وجدتني صاحب مقام معتبر، موجبا للتقدير خصوصا عند الذين نَكيْتٌهم بالأمس وكثيرا من مقربيهم، فدل ذلك علي أن هؤلاء يمارسون السياسة بكل بشرف ويحرصون علي الأخلاق الحميدة في عملهم السياسي ،وإن كانوا قد دفعوني في السابق إلي ما استقبحت ، لكن يبدوا أنهم وهم يفعلون ذلك ،مكرهون ،لا يرغبون في الأمر،كمن يفعل المنكر وقلبه غير مطمئن به. وقد دل تقديرهم واحترامهم لي... علي أنهم هم كذلك يستقبحون التحول غير المبرر جريا وراء المصلحة الشخصية.
وبالمناسبة أجدد لهم التقدير والاحترام ،وأترحم علي من مات منهم ،وأعترف لهم بجميل قبولهم اعتذاري .
إذا كان السياسيون يستقبحون ما لا يمكن أن يكيف علي أنه خيانة ولا غدر ، فما بالك بهما ،إذ نلاحظ في كثير من الأحايين أن المرشح في الانتخاب غير المباشر عندما ينجح بصفقة سرية في أن ينال صوتا من الطرف الآخر بصفة سرية ، يحقر صاحبه ـ فيما بعد ـ ويتندر عليه وفي ذلك استهجان واضح للعمل السياسي الذي يتجرد صاحبه من الأخلاق ،ويرجح المصلحة المادية الشخصية .

إننا إذ نشجب هذا التصرف الآنف الذكر نطالب بتشكيل لجنة أخلاقية في الغرفة المتبقية تعني بشجب ونقد السلوك غير الأخلاقي وقت مابدر من صاحبه ، ونطالب شيوخ الموالات التوقف فورا عن هذا التصعيد العلني سدا لذريعة انتشار حرية اتخاذ المواقف السياسية دون مراعاة للأخلاق الحميدة والقيم الفاضلة ،فهو احتقار للذائقة الجمعية الأخلاقية للمجتمع الموريتاني ـ إن صح المعني ـ وأكثر من ذلك هو تشريع من مشرعين لسلخ الأخلاق عن السياسة...  وذلك بعد أن لم يُنضجوا بوضوح بداية موقفهم الرافض ، لأن شرط النهاية تصحيح البداية.

ونحن إذ نوجه هذا طلب لمعشر الشيوخ ،بعد تفسير وتأصيل الموقف ، لن ننسي أبدا أنهم يستحقون علينا التقدير والاحترام الواجب عرفا وقانونا ، ولذلك نحترمهم. وليسمح لنا القارئ الكريم ،وليتقبل صدق تقديرنا للإخوة الشيوخ مع هذا النقد ...إذ لا نري في الأمر أي تناقض ،وربما لن يفهم البعض أن ذلك القدر الكبير والتقدير الواجب قانونا ، قد يكون أهم الأسباب التي جعلتنا نستشعر الخطر فيما حصل،ونكتب في الموضوع ولا نهمله، فهم غدوة فينا ، وتحطم الغدوة (أخلاقيا )من موجبات انهيار الدول ،ومصداق ذلك قصيدة أحمد شوقي في حسن الأخلاق : إنما الأمم الأخلاق ما بقيت***فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا ...إلخ .

 

3. يوليو 2017 - 9:46

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا